martes, 6 de septiembre de 2016

بديع الزمان النورسي

0 comentarios

للمآسي الدامية في تاريخ الشعوب وللأحداث الجسام والمنعطفات عن المسارات الأصيلة في حياة الأمم رجال عظماء وعباقرة أفذاذ تمتد يد العناية الإلهية لتبعث بهم في وسط هذا النقيع وتزج بهم بين هذا الضجيج الهائل ليمسكوا بناصية الأحداث ويحولوا بين شعوبهم وبين السقوط في مهاوي الضياع والانفلات الرهيب من دائرة تاريخهم وحضارتهم .
وبديع الزمان سعيد النورسي هو واحد من هؤلاء العظماء القي الله تعالي على كاهله مسؤولية النهوض بتجديد الحياة في الإيمان الراكد في القلوب وبعبء التصدي لهذا التيار الجارف المكتسح الذي كاد يسلخ الشعب التركي المسلم عن تاريخه ودينه وإسلامه .

ونستطيع أن نقول أن كتابنا هذا يكشف عن مسألتين :

    الأولي : أنه يكشف عن فترة تاريخية من حياة تركيا الحديثة وما تركته شخصية الأستاذ النورسي من آثار عميقة واضحة المعالم في الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية في الشعب التركي هذا التأثير الذي ما زال ساريا يفعل فعله ويؤدي دوره حتى بعد وفاته رضي الله عنه .
وهذا الأثر واضح مشهود نلمس آثاره لمس اليد ويعترف به حتي أعداؤه وخصومه .

    الثانيأن هذا الكتاب يستعرض حياة أحد كبار دعاة الإسلام في العصر الحديث فمن خلال دراسة حياته نستطيع أن نؤكد حقيقة من أعظم حقائق التاريخ وهي أن هذا لدين الإلهي العظيم دين حيوي خالد قادر على العطاء في كل زمان ومكان وأن هذه الحيوية قادرة على أن تنهض بالشعوب والأمم وتلقي بين أيديها بزمام العالم إذا توافرت لها القلوب الواعية السليمة والعقول الذكية والأذهان والإخلاص الكامل والعمل الجاد .

توطئة :

تركيا آنذاك :

   قبل أن نتناول سيرة الأستاذ ( بديع الزمان سعيد النورسي) لابد لنا أن نمر مرورا سريعا على بعض الأحداث الكبيرة للمرحلة الزمنية التي عاشها والمآسي التي تركت جروحا عميقة في وجدانه وضميره وهو يشاهد أمته تعاني منها وتئن تحت وطأتها .
   فقد ولد – رحمه الله – في عهد السلطان ( عبد الحميد الثاني ) أواخر عمر الدولة العثمانية الآيلة للسقوط وعاصر تكالب العداء وتزاحمهم للقضاء على هذه الدولة يحدوهم الحقد ألاسود على الإسلام في شخص دولة الخلافة ورغم ما بذله السلطان عبد الحميد من جهود للمحافظة على دولته المترامية الأطراف طيلة ثلاث وثلاثين سنة متوسلا بدهائه السياسي والإفادة من الظرف الدولي ومحاولته إيقاظ العالم الإسلامي وتنبيهه إلى ضرورة لمزيد من الوحدة والتماسك فيما بين شعوبه أمام الأعاصير الهابة من أوروبا الموتورة ألاّ إن ذلك كله جاء بعد فوات الأوان . لأن الدوائر الأجنبية كانت قد استطاعت أن توجد في قلب الدولة نفسها ركائز استخدمتهم في اللحظة المناسبة لهزّ شجرة الدولة من الجذور والإجهاز بعد ذلك على جذعها وأغصانها فالمؤامرات كانت قد حبكت بدقة متناهية في دهاليز وأقبية المخابرات الأجنبية فلم يستطع السلطان منع الانقلاب الذي خططت له القوي الخارجية واستخدمت زمرة من جمعية الإتحاد والترقي لتنفيذه .
    وبعد تنحية السلطان عن الحكم تولّت أجهزة الإعلام العالمية حملة واسعة نجحت في تشويه سمعة هذا السلطان المظلوم وتصويره بـ ( السلطان الأحمر) أو السفّاح والجلاد خلافا للحقيقة والواقع حيث أثبتت الوثائق الرسمية والبحوث التاريخية المتأخرة زيف تلك الحملات جميعها ولعل موقفه المتشدد من الصهيوني ( عما نوئيل قره صو) ورفضه التنازل عن شبر من أرض فلسطين لليهود يفسر باعث تلك الحملات المسعورة .
   ثم جاء الاتحاديون بالسلطان ( محمد رشاد) فأصبحوا يمررون من خلاله ما يريدونه من سياسات للدولة الجديدة ويزحفون أيضا إلى مناصب المسؤولية ومواقع القيادة حتي يستطيعوا التأثير في الحياة الاجتماعية وتقريبها خطوة بعد أخري نحو النماذج الحياتية للحضارة الأوروبية التي كانوا شغوفين بها .
ومع أن الاتحاديين كانوا يتغنون بشعار " الحرية " الأخوة المساواة" ألا أنهم فرضوا دكتاتورية حمراء دامية وتصيدوا معارضيهم غيلة على قوراع الطرق وقاموا بتصفيات جسدية لمن يتوسمون فيه المعارضة لهم ولم يكتفوا بهذا بل جّروا الدولة العثمانية إلى الحرب العالمية الأولى دون مبرر مما أدي في خاتمة المطاف إلى تمزقها شر ممزق .
هرب قادة الاتحادين خارج البلاد تاركين الأمة تعاني نتائج هذه الحرب المدمرة التي أوقعت البلاد تحت وطأة الجيوش الأجنبية .
    جاء بعد وفاة السلطان محمد رشاد – الذي توفي أثناء الحرب – السلطان محمد وحيد الدين الذي كان يكره الاتحاديين جاء هذا السلطان والدولة قد خسرت الحرب واستولي الانكليز واليونان والإيطاليون والأرمن على مناطق مختلفة من تركيا وحتي استانبول نفسها كانت تحت الاحتلال الانكليزي أى أن السلطان كان في واقع الأمر أسيرا بيد الانكليز.
   تلك هي الصورة البائسة التي خلفتها الحرب وراءها شعب مهزوم قد أنهكته الحرب يئن تحت وطأة أقدام الغزاة وجروح عميقة في وجدان هذه الأمة التي فقدت كل شئ بنته بعرقها وجهادها وعقيدتها في عدة قرون .
·        إنه بديع الزمان النورسي :

"قلة قليلة تلك التي تعرف شيئاً ذا بال عن الشيخ المجاهد العالم العامل بديع الزمان النورسي، وهو من هو علماً ومكانه في تاريخ تركيا الحديثة التي شهدت تطورات خطيرة في هذا القرن العشرين، وما تزال آثاره حتى الآن يتفاعل بها المجتمع التركي المعاصر، الأمر الذي حدا بي إلى كتابة هذا التعريف الموجز به ليكون بمثابة المدخل إلى شخصيته".

المولد:

·        بين الجبال الشم الرواسي الضاربة بقممها المكسوة بالثلوج في السماء النقية الصافية ومع أنداء الفجر ولد سعيد النورسي في قرية " نورس" وهي احدي قري قضاء " خيزان" التابع الولاية ( بتليس) شرق الأناضول سنة ( 1293هـ1873م)*.
·        كان والده " الصوفي ميرزا" ورعا يضرب به المثل لم يذق حراما ولم يطعم أولاده من غير الحلال حتي أنه إذا عاد بمواشيه من المرعي شدّ أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين وتقول أمه " نورية " أنها ما أرضعت أطفالها إلاّ وهي على طهر ووضوء .

·        ونشأ في بيئة كردية يخيم عليها الجهل والفقر، كأكثر بلاد المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين. وإلى قريته (نُوْرس) يُنْسَب.


الطفولة والنشأة وأمارات الذكاء :

ظهرت مخايل النبوغ والذكاء على ( سعيد الصغير) منذ طفولته حيث كان دائم السؤال والاستطلاع لكل ما استغلق عليه فهمه ...
فكان يحضر مجالس الكبار ويصغي إلى ما يدور بينهم من مناقشات في مسائل شتي ولا سيما علماء قريته الذين كانوا يجتمعون في منزل والده ليالي الشتاء الطويلة ...
  - ويمر بخاطره مرة سؤال ظريف : إذ يقول عن نفسه :[ كنت قد حدّثت خيالي ف يعهد صباي أى الأمرين تفضل ؟ قضاء عمر سعيد مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهي ذلك إلى العدم أم وجودا باقيا مع حياة اعتيادية ذات مشقة ؟ فرأيته يرغب في الثانية ويتأفف من ألأولي قائلا : أنني لا أريد العدم بل البقاء..
 *   كان أنوفا عزيز الجانب لا يقبل الضيم وينفر من الظلم منذ صغره وقد تأصلت وقويت هذه الأخلاق عنده عندما بلغ مبلغ الرجال وانعكست على كل تصرفاته مع من قابلهم من مسئولين وحكام .
    كان نظام المدارس " الكتاب" في شرق الأناضول آنذاك قائما على أعطاء حق فتح المدارس العلمية الدينية لكل عالم مجاز . وتكون مصاريف الطلاب على عاتق منشئ المدرسة إن كان قادرا على ذلك وإلاّ فإن هذه المصاريف تعطي من زكاة الأهلين ومن تبرعاتهم لذا كان طلاب المدارس الدينية ينتشرون في القري لجمع الزكاة لتأمين مصاريفهم ولكن" سعيدا الصغير" لم يكن يرضي لنفسه أن يأخذ زكاة أو صدقة لذلك فإن أصدقاءه عندما توزعوا في القري لجمع الزكاة والصدقات لم يذهب معهم مما أثار تقدير وإعجاب القرويين الذين جمعوا له فيما بينهم مساعدة مالية وقدّموها له إلاّ أنه رفض أن يأخذها فاضطروا إلى إعطائها لأخيه " الملا عبد الله ".
  *    ولمّا دخل (الكُتَّاب) وتتلمذ على أيدي المشايخ والعلماء بهرهم بقوة ذاكرته، وبداهته، وذكائه، ودقّة ملاحظته، وقدرته على الاستيعاب والحفظ، الأمر الذي جعله ينال الإجازة العلمية وهو ابن أربع عشرة سنة بعد أن تبحّر في العلوم العقلية والنقلية بجهده الشخصي.
                                                                                       
·        فقد حفظ عن ظهر غيب، ثمانين كتاباً من أمّات الكتب العربية كما حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياته الخصبة الحافلة.

·        ذهب إلى مدرسة العالم المعروف " فتح الله أفندي " الذي سأله :
  -   كنت تقرأ " السيوطي " في السنة الماضية فهل تقرأ " الجامي " هذه السنة ؟
 -   لقد قرأته كاملا .وبدأ ( فتح الله أفندي ) يسرد له أسماء الكتب ويجيبه ( الملا سعيد ) بأنه قرأها كاملا حتي أصبح يتعجب من أمره ويقول له أخيرا :
 -  لقد كنت مجنونا في السنة الماضية فهل ما زلت على جنونك حتي الآن ؟
عند ذلك أبدي ( الملا سعيد) استعداده للامتحان في تلك الكتب وفعلا فإنه لم يتردد أمام أىّ سؤال كان مما أدهش العالم أعجبه وأخيرا قال له :
- حسنا .. إن ذكاءك خارق ولكن دعنا نري قوة حفظك فهل تستطيع أن تقرأ بضعة أسطر من هذا الكتاب مرتين وتحفظها ؟ ومد له كتاب "مقامات الحرير" أخذ ( الملا سعيد) الكتاب وقرأ صفحة واحدة منه مرة واحدة فإذا بها كافية لحفظها مما أذهل العالم " فتح الله أفندي " وجعله يقول :
- إن اجتماع الذكاء الخارق مع القوة الخارقة للحفظ شئ نادر جدا وهناك قرأ الملا سعيد كتاب " جمع الجوامع " في أصول الفقه لأبن السبكي بمعدل ساعة أو ساعتين في اليوم لمدة أسبوع وكانت هذه القراءة كافية لحفظ الكتاب عن ظهر قلب وقد دفع هذا العالم " فتح الله أفندي " إلى كتابة العبارة الآتية على غلاف الكتاب :" لقد جمع في حفظه " جمع الجوامع " جميعه في جمعة".

·        وكان في هذه الثناء منقطعا عن العالم يقضي معظم أوقاته وخاصة في الليالي – بجانب ضريح الشاعر الولي " أحمد خاني " حيث كان يستمر في القراءة على ضوء الشموع وبعد انتهاء الأشهر الثلاثة أخذ إجازته العلمية من الشيخ " محمد جلالي ".
v  سعيد المشهور :
 - ولم يلبث أن انتشرت شهرة هذا الشاب الخارق فأقبل عليه علماء المدينة يجادلونه ويحاولون إحراجه بأسئلتهم وقد أفحمهم جميعا مما جعلهم يطلقون عليه " سعيدي مشهور " أى سعيد المشهور .
 -     ثم ذهب إلى " بتليس" ومنها إلى مدينة ( تللو) حيث اعتكف مدة في احدي أماكن العبادة وحفظ هناك من " القاموس المحيط " للفيروز آبادي حتي باب السين .
  -       في سنة1892 م ذهب الملا سعيد إلى ماردين حيث بدأ يلقي دروسه في جامع المدينة ويجيب عن أسئلة قاصديه وقد أحسّ والي المدينة" نادر بك" لوشاية البعض بأن هذا الشخص خطر وأنه يحدث بلبلة في المدينة لذلك قرر نفيه من المدينة فسيق بصحبة الجندرمة( الشرطة ) ويداه مغلولتان .. إلى مدينة " بتليس" .
        وقد عرف " عمر باشا " والي بتليس آنذاك بعد مدة قصيرة من وصول ( الملا سعيد ) فضيلة هذا الشاب العالم ومنزلته فأحبه وأصر عليه أن يقيم معه في منزله امتنع ( الملا سعيد) في أول الأمر ولكن الوالي ألحّ عليه كثيرا إلى أن جعله يقبل خصص له غرفة في بيته .
        وقد وجد الملا سعيد هنا الفرصة لمطالعة كثير من الكتب العلمية وحفظ كتبا عديدة منها عن ظهر قلب كما طالع كثيرا من كتب علم الكلام والمنطق والنحو والتفسير والحديث والفقه فحفظ أكثر من ثمانين كتابا من أمهات كتب العلوم الإسلامية وكان يكرر يوميا قراءة تلك الكتب عن ظهر قلب ويختمها كل ثلاثة أشهر وفي هذه المدينة أخذ آخر دروسه الدينية من العالم الفاضل الشيخ " محمد الكفروي "
 - وفي سنة (1894م) ذهب إلى ( وان) بدعوة من واليها ( حسن باشا ) حيث بقي عنده ثم في منزل ( طاهر باشا ) ولقد هيأ الله له ظروف الالتقاء ببعض أساتذة العلوم الحديثة ( من جغرافية وكيمياء وغيرهما ) وحينما دخل معهم في نقاش شعر بقصوره في هذه العلوم مما جعله يقبل على تعلمها بشغف عظيم حتي أتقنها وأصبح متمكنا منها لدرجة أنه كان قادرا على التأليف ومناقشة المختصين فيها .
ففي مدة قصيرة جدا استطاع أن يتقن الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ والجغرافية وغيرها ولتعدد قابلياته ولذكائه الخارق قد ذاعت شهرته وأطلق عليه لقب " بديع الزمان".
                                    
·        كان طالب العلم سعيد النورسي شديد الاحتفال والاشتغال والتعلّق بالفلسفة والعلوم العقلية، وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها، كأكثر أهل الطرق الصُّوفية، بل كان يجهد لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثتها إياه مداومة النظر في كتب الفلاسفة.

v      حبه للقرآن الكريم :

    في عام 1894 تناهى إلى سمعه أن وزير المستعمرات البريطاني (غلادستون) وقف في مجلس العموم البريطاني، وهو يحمل المصحف الشريف بيده، ويهزّه في وجوه النواب الإنكليز، ويقول لهم بأعلى صوته:

" ما دام هذا الكتاب موجوداً، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان، لذا، لا بدّ لنا من أن نعمل على إزالته من الوجود، أو نقطع صلة المسلمين به".

فصرخ العالم الشاب سعيد النورسي من عمق أعماقه: "لأبرهننّ للعالم أجمع، أن القرآن العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها".

 - ورأى النّورسيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وسأله أن يدعو الله له: أن يفهّمه القرآن، وأن يرزقه العمل به، فبشّره الرسول الكريم بذلك، قائلاً له:

"سيوهب لك علم القرآن، شريطة ألا تسأل أحداً شيئاً".

وأفاق النورسيّ من نومه، وكأنما حيزت له الدنيا.. بل.. أين هو من الدنيا، وأين الدنيا منه.. أفاق وكأنما حيز له علم القرآن وفهمه، فقد آلى على نفسه ألا يسأل أحداً شيئاً، استجابة لشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبه الله ما تمنى، وصار القرآن أستاذه ومرشده وهاديه في الدياجير التي اكتنفت تركيا الكمالية.

·        لذلك فقد قرر إنشاء جامعة إسلامية في شرق الأناضول باسم " مدرسة الزهراء" لخدمة القرآن لتحقيق فكرته هذه فقد شدّ الرحال إلى استانبول وبقي هناك في بيت أحد أصدقائه سنة ونصف سنة في محاولة لإقناع المؤولين بفكرته والظاهر انه لم يوفق في مسعاه ... فرجع إلى ( وان) .
·        رجع إلى استانبول مرة أخري سنة  1907م"
وأثناء إقامته في استانبول علق لوحة على باب غرفته كتب فيها هنا يجاب عن كل سؤال وتحل كل مشكلة دون أن يسأل هو أحدا من الناس .
كان هذا إعلانا غريبا وإدعاء مثيرا مما زاد على شهرته – التي سبقته إلى استانبول – من رغبة الكثيرين في رؤيته .
-  يسرد السيد " حسن فهمي باش أوغلو" ذكرياته حول هذا الموضوع:
عندما جاء شاب يدعي " بديع الزمان " إلى استانبول كنت أدرس في مدرسة ( الفاتح) وسمعت أنه علق لوحة على باب غرفته يقول فيها ما معناه : ( هنا يحل كل أمر معقد ويجاب عن كل سؤال ولكنه لا يسأل أحدا ) وقد تبادر إلى ذهني أن صاحب مثل هذا الادعاء لابد ان يكون مجنونا ولكن توالي الثناء على " بديع الزمان " من قبل الجميع من الطلاب والعلماء الذين قاموا بزيارته أثار في نفسي الرغبة في زيارته وقد قررت أن أختار أعقد الأسئلة وأدقها لأسأله وكنت آنذاك أعتبر من المتقدمين المتفوقين في المدرسة .
وأخيرا – وفي احدي الأمسيات – اخترت من الكتب التي تبحث في " الإلهيات " بعض الموضوعات المعقدة التي لا يمكن الإجابة عنها إلا بمجلدات من الكتب .
وفي اليوم التالي ذهبت لزيارته ووجهت إليه الأسئلة وقد كانت أجوبته عجيبة وخارقة ومدهشة إذ أجابني وكأنه كان معي بالأمس ينظر إلى تلك الكتب فأصبحت موقنا مطمئنا بان علمه ليس كسبيا – كعلمنا – بل هو علم لدني.
ويزوره عالم اسمه " حسن أفندي " قضي عمره المديد في التدريس ولم يغب عن التدريس إلا يوما واحدا وهو يوم زيارته لـ " بديع الزمان"سعيد النورسي" وفي اليوم التالي لزيارته حضر إلى الدرس قائلا لطلابه :" لم أشاهد مثله أبدا .. أنه من نوادر الخلق .. لم يجئ مثله قط .."
بديع الزمان في مهبّ الأعاصير:

نستطع تمييز مرحلتين في حياة الإمام سعيد النورسيّ:

الأولى: مرحلة سعيد القديم

وتبدأ من مولده حتى نفيه إلى بلدة (بارلا) عام 1926 وهذه المرحلة هي مرحلة الإعداد الذاتي لنفسه، ومرحلة العمل الفردي، وخوض المعارك السياسية، مدافعاً عن الخلافة، وعن القرآن والإسلام، مهاجماً أعداء الإسلام وأعداء الخلافة والقرآن.

·        وفي هذه المرحلة:

   - وفي عام 1907 سافر مرة أخرى إلى استانبول، للغرض ذاته، وقابل السلطان عبد الحميد، وانتقد الاستبداد ونظام الأمن واستخبارات القصر (يلدز) فأثار عليه حاشية السلطان، وأحالوه إلى محكمة عسكرية.

   وكان النورسي في منتهى الشجاعة في التعبير عن رأيه أمام القضاة العسكريين، الأمر الذي جعل رئيس المحكمة يحيله إلى الأطباء النفسانيين، للتأكد من سلامة قواه العقلية، وكانت لجنة الأطباء المؤلفة من طبيب تركي، وآخر أرمني، وثالث رومي ومن طبيبين يهوديين (!!!) قررت وضعه في مستشفى (طوب طاش ) للمجانين (!!!).

وعندما حضر طبيب نفساني إلى المستشفى، لفحص قواه العقلية، بادره النورسي بحديث رائع عميق يأخذ بالألباب، فما كان من الطبيب إلا أن يكتب في تقريره:

" لو كانت هناك ذرّة واحدة من الجنون عند بديع الزمان، لما وُجد عاقل واحد على وجه الأرض".

·        ثم أحيل النورسي إلى وزارة الداخلية، وكان الحوار التالي بينه وبين وزير الداخلية:

     - الوزير: إن السلطان يخصك بالسلام مع مرتب بمبلغ ألف قرش وعندما تعود إلى بلدك سيجعل مرتبك ثلاثين ليرة كما أرسل لك ثمانين ليرة هدية سلطانية لك.
    - بديع الزمان: لم أكن أبداً متسول مرتب، ولن أقبله ولو كان ألف ليرة لأنني لم آت لغرض شخصي، وإنما لمصلحة البلد، فما تعرضونه عليّ ليس سوى رشوة السكوت.
    -  الوزير: إنك بهذا تردّ الإرادة السلطانية، والإرادة السلطانيّة لا تردّ.
    -  بديع الزمان: إنني أردّها، لكي يستاء السلطان ويستدعيني.. عند ذلك أستطيع أن أقول له قولة الحق.
    -  الوزير: إن العاقبة ستكون غير سارة.
    -  بديع الزمان: تعددت الأسباب والموت واحد، فإن أعدم فسوف أرقد في قلب الأمة، علماً بأنني عندما جئت إلى إستانبول كنت واضعاً روحي على كفي.. اعملوا ما شئتم، فإني أعني ما أقول: إنني أريد أن أوقظ أبناء الأمة، ولا أقوم بهذا العمل إلا لأنني فرد من هذا البلد، لا لأقتطف من ورائه مرتباً، لأن خدمة رجل مثلي للدولة لا تكون إلا بإسداء النصائح، وهذه لا تتم إلا بحسن تأثيرها، وهذا لا يتم إلا بترك المصالح الشخصية فإنني معذور إذن عندما أرفض المرتب.
    - الوزير: إن ما ترمي إليه من نشر المعارف في بلدك هو موضع دراسة في مجلس الوزراء حالياً.
بديع الزمان: إذن فلِمَ يتأخر نشر المعارف، ويستعجل في أمر المرتّب؟ لماذا تؤثرون منفعتي الشخصية على المنفعة العامة؟.

·          ثم ذهب إلى (سلانيك) مقرّ يهود الدونمة ومشتقاتهم من جمعية (الاتحاد والترقي) و(الماسوني[1]) وسواهما، والتقى عدداً من شخصيات (الاتحاد والترقي) الذين كانوا يطمعون في كسب النورسيّ العبقري إلى صفهم، وكان ممن التقاهم: (عما نوئيل قره صو) رئيس المحفل الماسوني، وعضو مجلس المبعوثان (أي النواب) العثماني، وكان قره صو يطمع في النورسيّ ولكنّ المقابلة بينهما لم تطل، لأن قره صو فرَّ هارباً من اللقاء، وهو يقول: "كاد هذا الرجل العجيب – النورسي- يدخلني في الإسلام بحديثه".

و (قره صو) هذا أول صهيوني ماسوني عمل على خلع السلطان عبد الحميد وإلغاء الخلافة.
·        مفهوم الحرية:

     - وعندما أعلنت المشروطية الثانية[2] في الدولة العثمانية في (23 تموز سنة 1908م) صرف جل همه إلى إلقاء الخطب , وكتابة المقالات مبينا فيها مفهوم الحرية فيالإسلام وتأثير الإسلام في الحياة السياسية وطالبا بتحكيم الشريعة الغراء ومحذرا من التفسير الخطأ للحرية حيث شعر بأن هناك محاولات خبيثة وأيديا خفية تحاول أن تستفيد من هذه ( المشروطية ) لخدمة أغراض مناهضة للإسلام فكان يقول :" بني وطني لا تسيئوا تفسير الحرية كي لا يذهب من أيديكم لا تصبوا العبودية العفنة في قوالب براقة وتسقونا من علقمها أن الحرية لا تتحقق ولا تنمو إلا بتطبيق أحكام الشريعة ومراعاة آدابها ".
·        لقاء مع شيخ الأزهر :

حضر استانبول في هذه الأثناء شيخ الأزهر وهو الشيخبخيت المطيعي " وأراد علماء استانبول – الذين عجزوا عن إلزام سعيد النورسي – أن يقوم بمناظرته وقد قبل الشيخ بخيت ذلك وانتهز فرصة وجوده في مقهي قرب جامع " أياصوفيا" بعد انتهاء الصلاة ليبدأ الحديث معه أمام جمع من العلماء ويوجه إليه السؤال الآتي :

  -  ما رأيك في الحرية الموجودة الآن في الدولة العثمانية ؟ وماذا تقول في مدينة أوروبا؟ فأجابه سعيد النورسي :
 * إن الدولة العثمانية حبلي حاليا بجنين أوروبا وستلد يوما ما أما أوروبا فهي أيضا حبلي بجنين الإسلام وستلد يوما ما .
وأمام هذا الجواب الموجز العميق لم يتمالك الشيخ ( بخيت) نفسه من القول : أنني أوافق على كلامه وأنني أحمل هذا الرأي نفسه ولا يمكن المناظرة والمناقشة مع هذا الشاب.

- وفي هذه المرحلة اتُّهم فيمن اتُّهم بحادثة 31 مارت[3] (13/4/1909)
-  كتب لكثيرون عن هذه الحادثة محللين فالذين كتبوا بعد عزل السلطان " عبد الحميد" يعزون أسباب هذه الحادثة إلى السلطان عبد الحميد ويعتبرونها محاولة لحركة انقلابية دبرها السلطان للإطاحة بالاتحاد والترقي .
ولكن الكتب التاريخية المتأخرة بعد ظهور كثير من الوثائق والمذكرات الشخصية للذين عاصروا تلك الحركة تنفي هذه التهمة وتسلط الأضواء على الأسباب الحقيقية لهذه الحادثة الدموية وتتهم الاتحاد والترقي بتدبيرها أو استغلالها للإطاحة بالسلطان عبد الحميد .
·        والمرجّح أن هذه الحركة حدثت نتيجة تشابك عدة أسباب منها : إحساسا الشعب ببعد جمعية الإتحاد والترقي عن الدين وعلاقتهم الوطيدة بالماسونيين واليهود ومنها أن جمعية الإتحاد والترقي أشاعت جوا من الإرهاب في البلد إذ اغتيل مجموعة من الصحفيين والنشطاء السياسين
·        وسيق النورسي إثر خطبة جامعة حول تحكيم الشرع وإقامة العدل إلى المحاكمة، ورأى في الساحة خمسة عشر رجلاً معلقين على أعواد المشانق، ظناً من القضاة أن هذا المنظر سوف يرهبه.. قال له الحاكم العسكري خورشيد باشا:
-  وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيع الشريعة؟ إن من يطالب بها يشنق هكذا (مشيراً بيده إلى المشنوقين)...
    -  فقام بديع الزمان سعيد النورسي وألقى على مسمع المحكمة كلاماً رائعاً نقتطف منه ما يأتي:
                                                                                                                                 
"لو أن لي ألف روح لما تردّدت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام فقد قلت: إنني طالب علم، لذا فأنا أزن كل شيء بميزان الشريعة، إنني لا أعترف إلا بملة الإسلام.. إنني أقول لكم وأنا واقف أمام البرزخ الذي تسمونه (السجن) في انتظار القطار الذي يمضي بي إلى الآخرة لا لتسمعوا أنتم وحدكم بل ليتناقله العالم كله، ألا لقد حان للسرائر أن تنكشف، وتبدو من أعماق القلب، فمن كان غير محرم فلا ينظر إليها.
إنني متهيئ بشوق لقدومي للآخرة.. وأنا مستعد للذهاب مع هؤلاء الذين عُلقوا في المشانق. تصوروا ذلك البدوي الذي سمع عن غرائب إستانبول ومحاسنها، فاشتاق إليها.. إني مثله تماماً في شوقي إلى الآخرة والقدوم إليها. إن نفيكم إياي إلى هناك لا يعتبر عقوبة. إن كنتم تستطيعون فعاقبوني المعاقبة الوجدانية. لقد كانت الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد وهي الآن تعادي الحياة، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا، فليعش الجنون، وليعش الموت، وللظالمين فلتعش جهنم".

وفي جلسة واحدة فقط صدر حكم ببراءة بديع الزمان سعيد النورسي من تلك المحكمة الرهيبة التي شنقت العشرات.

- أسس (الاتحاد المحمدي) في سنة 1909 رداً على دعاة القومية الطورانية، والوطنية الضيقة، كجمعية الاتحاد والترقي، وجمعية تركيا الفتاة.

- انضم إلى (تشكيلات خاصة) وهي مؤسسة سياسية عسكرية أمنية سرية، شكلت بأمر السلطان محمد رشاد قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، من أجل المحافظة على أراضي الدولة العثمانية، ومحاربة أعدائها. وكان قد انضم إلى هذه المؤسسة كثير من المفكرين والكتّاب، وكان النورسي من أنشط أعضاء قسم (الاتحاد الإسلامي) فيها، وأصدر مع عدد من العلماء (فتوى الجهاد) التي تهيب بالمسلمين أن يهبوا للدفاع عن الخلافة.

- وفي هذه المرحلة سافر إلى مدينة (وان) عام 1910 وبدأ يلقي دروسه ومحاضراته، متجولاً بين القبائل والعشائر الكردية، يعلمهم أمور دينهم، ويرشدهم إلى الحق.

-  وفي شتاء سنة 1911 م ( 1327هجرية) زار ديار الشام حيث كانت أخته هناك , وألقي خطبة باللغة العربية في الجامع الأموي في دمشق مخاطبا لعلماء وجمعا غفيرا من المصلين وقد طبعت خطبته هذه في كراسة تحت عنوان " الخطبة الشامية " التي شخص فيها أمراض الأمة الإسلامية وعلاجاتها منها :
1-  اليأس والقنوط الذي ما زال يجد أسباب الحياة في نفوسنا .
2-  موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية .
3-  حب العداوة .
4-  تجاهل الرابطة الروحية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض .
5-  ذيوع الاستبداد ذيوع الأمراض المعدية المختلفة .
6-  حصر الهمة في المنفعة الشخصية دون الالتفات إلى النفع العام .
ثم بين الدواء لكل مرض من الأمراض المذكورة مبتدأ ب" الأمل ..

- وفي سنة 1912 عُيِّنَ بديعُ الزمان قائداً لقوات الفدائيين الذين جاؤوا من شرقي الأناضول، من الأكراد خاصة.

·        ومن بين أعضائها كثير من الكتاب ورجال الفكر أيضا وكان بديع الزمان من أنشط أعضاء قسم " الاتحاد الإسلامي " في هذه المؤسسة .

   وبعد أن شارك في إصدار فتويا جهاد رجع إلى مدينة " وان " وهناك شكل من طلابه ومن المتطوعين المدنيين رفقا للجهاد وبدئوا التدريب على القتال وقد خاطب طلابه قائلا لهم.
" تهيأوا واستعدوا .. أن زلزالا شديدا أوشك على الأبواب ". وأشتهر طلابه بدقة التصويب والجرأة الكبيرة حتي أن عصابات الأرمن المتعاونة مع القوات الروسية كانت تتهيب لقاء هؤلاء المجاهدين .
- وفي سنة 1916 تمكنت القوات الروسية من الدخول إلى مدينة (أرضروم) التركية، وقد تصدى النورسي وتلاميذه المتطوعون للقوات الروسية، وخاضوا عدة معارك ضدها،
   - ثم جرح النورسي جرحاً بليغاً، ونزف نزفاً شديداً كاد يودي بحياته، الأمر الذي اضطر أحد تلاميذه إلى إعلام القوات الروسية بذلك، فاقتادوه أسيراً، وبقي في الأسر في (قوصطرما) سنتين وأربعة أشهر، ثم تمكن من الهرب من معسكرات الاعتقال، إثر الثورة البلشفية في روسيا.

وذات يوم قُدِّمَ هناك إلى المحكمة الحربية بتهمة إهانة القيصر الروسي.

أما قصة ذلك فهي كما يأتي:

كان خال القيصر والقائد العام للجبهة الروسية، "نيكولا نيكولافيج" يزور معسكر الأسرى فقام جميع الأسرى لأداء التحية ماعدا (سعيد النورسي). لاحظ القائد العام ذلك، فرجع ومرّ ثانية أمامه.. فلم يقم له كذلك، وفي المرة الثالثة وقف أمامه وجرت المحاورة الظريفة الآتية بينهما بواسطة مترجم القائد:

القائد: الظاهر أنك لم تعرفني؟
النورسيّ: بلى.. لقد عرفتك. إنك نيكولا نيكولافيج، خال القيصر، والقائد العام في جبهة القفقاس.
القائد: إذن فلِمَ تستهين بي؟
النورسيّ: كلا، إنني لم أستهن بأحد، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
القائد: وماذا تأمرك عقيدتك؟
النورسيّ: إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي إيماناً، والذي يحمل في قلبه إيماناً هو أفضل من الذي لا إيمان له. ولو أنني قمت لك لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي، لذلك فإنني لم أقم لك.
القائد: إذن فإنك بإطلاقك عليّ صفة عدم الإيمان، تكون قد أهنتني وأهنت جيشي وأمتي والقيصر كذلك، يجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في هذا الأمر.

تشكلت المحكمة العسكرية، وقُدِّمَ إليها سعيد النورسي بتهمة إهانة القيصر والأمة الروسية والجيش الروسي.
ويسود حزن في معسكر الأسرى ويلتف حوله الضباط الأسرى من الأتراك والألمان والنمساويين ملحّين عليه القيام بالاعتذار للقائد الروسي وطلب العفو منه، إلا أنه رفض ذلك بإصرار، قائلاً لهم:

"إنني أرغب في الرحيل إلى الآخرة، والمثول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك فإنني بحاجة فقط إلى جواز سفر للآخرة، وأنا لا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني".

وتصدر المحكمة قرارها بالإعدام، وفي يوم التنفيذ تحضر ثلة من الجنود على رأسها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام، ويقوم سعيد النورسي من مكانه بابتهاج قائلاً للضابط الروسي:

- أرجو أن تسمح لي قليلاً لأؤدي واجبي الأخير.

ثم يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين.

وهنا يأتي القائد العام ليقول له بعد فراغه من الصلاة:

- أرجو منك المعذرة، كنت أظنك قد قمت بعملك قاصداً إهانتي ولكنني واثق الآن أنك كنت تنفذ ما تأمرك به عقيدتك وإيمانك، لذا فقد أبطلت قرار المحكمة، وإنني أهنئك على صلابتك في عقيدتك، وأرجو المعذرة منك مرة أخرى.

-   وسجل سعيد النورسي ذكرياته عن أيام أسره هذا قائلا :
-  كنت أسيرا أثناء الحرب العالمية في مدينة بعيدة جدا في شمالي شرقي روسيا تدعي "قوصترما" كان هناك جامع صغير للتتار على حافة نهر " فولغا" المشهور .. كنت ضجرا من بين زملائي الضباط الأسري فآثرت العزلة , إلا أنه لم يكن يسمح لى بالتجوال في الخارج دون إذن ورخصة ثم سمح لى بأن أظل في ذلك الجامع بضمانة أهل حيّ التتار وكفالتهم فكنت أنام فيه وحيدا وقد اقترب الربيع وكانت الليالي طويلة جدا في تلك البقعة النائية ... كان الأرق يصيبني كثيرا في تلك الليالي الحالكة السواد المتسربلة بأحزان الغربة القاتمة حيث لا يسمع إلا الخرير الحزين لنهر " فولغا" والأصوات الرقيقة لقطرات الأمطار ولوعة الفراق في صفير الرياح .. كل ذلك كان كافيا لأن يوقظني – مؤقتا – من نوم الغفلة العميق .. ورغم أنني لم أكن أعد نفسي شيخا بعد ولكن الذي يري الحرب العالمية لابد أن يشيب حيث مرت أيام يشيب من هولها الولدان وكأن سرا من أسرار الآية الكريمة " يوما يجعل الولدان شيبا " المزمل/17" قد سري فيها ومع أنني كنت قريبا من الأربعين إلا أنني وجدت نفسي كأنني في الثمانين من عمري ..
-  في تلك المظلمة الطويلة الحزينة وفي ذلك الجو الغامر بأسي الغربة ومن واقعي المؤلم الأليم جثم على صدري يأس ثقيل نحو حياتي وموطني فكلما ألتفت إلى عجزي وانفرادي انقطع رجائي وأملي ولكن جاءني المدد من القرآن الكريم .. فردد لساني :" حسبنا الله ونعم الوكيل" وقال قلبي باكيا أنا غريب .. أنا ضعيف .. أنا عاجز .. أنشد الأمان .. أطلب العفو .. أخطب العون في بابك يا إلهي

- في 13/8/ 1918 عُيِّنَ عضواً في (دار الحكمة الإسلامية) التي كانت تضم كبار العلماء والشعراء والشخصيات في إستانبول.

ولم يشارك سعيد النورسي في اجتماعات دار الحكمة لما كان يحس به من حاجة حقيقية إلى الراحة بعد ما قاساه من عاناء أيام الأسر وعندما تكرر غيابه أرسل طلبا يرجو إعفاءه من هذه العضوية وفي هذه الفترة كانت الحكومة قد خصصت له مرتبا ولم يأخذ من هذه المرتب سوي ما يقيم به أوده والباقي طبع به بعض الرسائل وأمر بتوزيعها مجانا على المسلمين .
 - يقول ابن أخيه " عبد الرحمن " الذي كان يعيش معه في هذه الفترة في رسالة بعث بها إلى عمه عبد المجيد :
" إنني محتار من أحوال عمي ( سعيد ) فقد أطفأ عندي جميع الآمال الدنيوية فالحكومة تعطيه مرتبا جيدا وأنا أقوم بادخار ما يفضل عن مصاريفنا وقد ألف كتاب عدة واستدعاني مرة قائلا : أذهب واستدع مدير المطبعة الفلانية ذهبت وعندما قدّم مؤلفاته إلى المدير قال لى : يا عبد الرحمن ! هات ما ادخرته من نقود وادفعها للسيد المدير فنفذت له ما أراد وعندما ذهب المدير امتلأت عيناي بالدموع ولكنّي بدأت أعزي نفسي قائلا :
هذه الكتب ستطبع وستباع وإن النقود سترجع وسأدخرها ولكن بعد عدة أيام أرسلني مرة أخري لاستدعاء المدير وفي هذه المرة قال للمدير:" أرجو أن تكتب على كتبي بأنها توزع مجانا على أفراد الأمة الإسلامية ".
عندما خرج المدير شعرت بأن الرابطة الروحية التي كنت أحسها تجاه عمي الكبير قد تزحزحت ولم أستطع أن أتمالك نفسي عن البكاء فقلت له : يا عمي ! كنت أدخر بعض النقود لكي أقوم بتعمير بيتنا الذي خربته الحرب والآن فقد قتلت ذلك الأمل .. أيجوز ذلك ؟
وابتسم عمي قائلا لي :                                                                                            
- يا ابني ... يا عبد الرحمن ! إن الحكومة كانت تعطينا مرتبا كبيرا وليس لى أن أخذ منه إلاّ كفاف النفس أما ما زاد من ذلك فيجب أعادته إلى بيت المال لذا فإنني قمت بإعادته إلى المسلمين ولا أعتقد بأنك ستفهم هذا ولكن أعلم بأن الله إن شاء فسيعطيك بيتا في أى مكان من هذا الوطن الحبيب.


·        وبعد أن احتل الحلفاء (الإنكليز والفرنسيون) العاصمة إستانبول، ألَّفَ النورسي كتابه (الخطوات السّتّ) وحَكَمَ عليه الحاكم العسكري الإنكليزي بالإعدام على هذا الكتاب، وعلى نشاطه المعادي للقوات المحتلة، وأراد محبوه إنقاذه، فدعوه إلى (أنقرة) فأجابهم:

"أنا أريد أن أجاهد في أخطر الأمكنة، وليس من وراء الخنادق. وأنا أرى أن مكاني هذا أخطر من الأناضول".

- دُعِيَ إلى أنقرة سنة 1922 واستُقْبِلَ في المحطة استقبالاً حافلاً، ولكنه لاحظ أن أكثر النواب لا يصلّون، كما أن مصطفى كمال يسلك سلوكاً معادياً للإسلام، فقرر أن يطبع بياناً تضّمن عشر مواد، وجهه إلى النواب، واستهله بقوله:

"يا أيها المبعوثون.. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم".
وكان من أثر هذا البيان الذي ألقي على النواب، أن ستين نائباً قاموا لأداء فريضة الصلاة، والتزموا الدين، الأمر الذي أغضب مصطفى كمال فاستدعى النورسي وقال له:

"لاشك أننا في حاجة ماسة إلى أستاذ قدير مثلك، ولهذا دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك السديدة، ولكن أول عمل قمت به هو الحديث عن الصلاة.. لقد كان أول جهودك هنا هو بث الفرقة بين أهل المجلس".
فأجابه بديع الزمان، مشيراً إليه بإصبعه في حدّة.
"باشا.. باشا.. إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة، وإن الذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود".

عندها فكّر مصطفى كمال بإبعاده عن العاصمة، فعيَّنه واعظاً عاما للولايات الشرقية، وبمرتب مُغْرٍ، ولكن النورسي رفض الوظيفة والراتب.

·        كتب النورسي ونشر في هذه المرحلة عدة كتب ورسائل منها: إشارات الإعجاز- والسنوحات- والطلوعات- ولمعات وشعاعات من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم وسواها باللغة العربية.

v    نذير الصحوة :
    وعندما تولت المصايب والهزائم على الدولة العثمانية وتدخلت جيوش الدول الاستعمارية تركيا وتعقد معاهدة " سيفر "  يحس سعيد النورسي بهذه الطعنات وكأنها توجه إلى قلبه :
" لقد كنت أحس بأن هذه الضربات التي وجهت إلى العالم الإسلامي كأنها وجهت إلى أعماق قلبي ".
ويكتب عن هذه الفترة من حياته قائلا :
عندما رجعت من الأسر كنت أسكن مع ابن أخي " عبد الرحمن " في منزل فخم على قمة " جاملجة" في استانبول ويمكن أن تعتبر هذه الحياة التي كنت إحياها – من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا – حياة مثالية ذلك لأنني قد نجوت من الأسر وكانت وسائل النشر مفتوحة أمامي في " دار الحكمة الإسلامية " وبما يناسب مهنتي العلمية وأن الشهرة والصيت والإقبال على تحف بي بدرجة لا أستحقها , وأنا ساكن في أجمل بقعة في استانبول " جاملجة" وكل شئ بالنسبة لى على ما يرام حيث أن ابن أخي " عبد الرحمن" – رحمه الله – معي وهو في منتهي الذكاء والفطنة فهو تلميذ ومضح وخادم وكاتب معا حتي كنت أعده ابنا معنويا لي ...
   وبينما كنت أحس بأني أسعد شخص في العالم نظرت إلى المرآة ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي وإذا بتلك الصحوة الروحية التي أحسست بها في السر في جامع " قوصترما" تبدأ بالظهور فأخذت أنعم النظر وأفكر مدققا في تلك الحالات التي كنت أرتبط بها قلبيا وكنت أظنها هي مدار السعادة الدنيوية فما من حالة أو سبب دققت النظر فيه إلا رأيت: أنه سبب تافه وخادع لا يستحق التعلق به ولا الارتباط معه. وفضلا عن لذلك وجدت في تلك الأثناء قلة وفاء – بل عدمه – من صديق حميم يعد من أوفي الأصدقاء لى وبشكل غير متوقع وبصورة لا تخطر على بال ... كل ذلك أدي إلى النفرة والامتعاض من لحياة الدنيا فقلت لقلبي :
- يا تري هل أنا منخدع كليا فأري الكثيرين ينظرون إلى حياتنا – التي يرثي لها من زاوية الحقيقة – نظر الحسد والغبطة فهل جن جنون جميع هؤلاء الناس ؟ أما أنا في طريقي إلى الجنون لرؤيتي هؤلاء المفتونين بالدنيا مجانين بلهاء ؟! وعلى كل حال .. فالصحوة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني أري أولا فناء ما ارتبط به من الأشياء المعّرضة إلى الفناء والزوال؟
- ثم التفت إلى نفسي فوجدتها في منتهي العجز ! ... عندها صرخت روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وتشبثت بالأشياء الفانية متوهمة فيها البقاء صرخت من أعماقها "ما دامت فانية – جسما فأى فائدة أرجوها من هذه الفانيات ؟ وما دمت عاجزة فماذا انتظر من العاجزين ؟... فليس لدائي دواء إلا عند الباقي السرمدي وإلا عند القدير الأزلي " فبدأت أبحث وأستقصي.

-   ومن سلسلة المؤامرات على الإسلام وجه الانكليز عن طريق كنيسة " انكليكان" ستة أسئلة إلى المشيخة الإسلامية ليجيب عنها بستمائة كلمة فوجهت المشيخة هذه الأسئلة إلى بديع الزمان وكان جوابه " إن هذه الأسئلة لا يجاب عنها بستمائة كلمة ولا بست كلمات.. ولا بكلمة واحدة .. بل ببصقة واحدة على الوجه الصفيق للإنكليزي اللعين "
                                                              
  -   وبعد أن انهارت الدولة العثمانية ومزقت ظهرت رغبة عند بعض المثقفين الأكراد في إنشاء دولة كردية في الولايات الشرقية من تركيا ولكون سعيد النورسي كردي الأصل وذا منزلة كبيرة في نفوس أهالي الولايات الشرقية أرسل إليه أحد الصحفيين رسالة يطلب فيها الانضمام إلى الداعين لتكوين هذه الدولة وقد أجابه سعيد النورسي برسالة مطولة قال فيها :

- " يا رفعت بك... سأكون معك إن حاولت إحياء الدولة العثمانية .. وأنا مستعد للتضحية بنفسي في السبيل أما تكوين دولة كردية .. فلا !"


في عام 1923 غادر النورسي مدينة أنقرة إلى مدينة "وان"بعد أن لمس عن كثب الحالة المزرية لمجلس المبعوثان ( النواب ) وشعر بالنوايا الخفية السيئة لتي كان يكنها للإسلام الكثير من أعضائه أصابه حزن عميق جعله يكثر من التهجد والعبادة والشكوي إلى الله مما آلت إليه حالة المسلمين فقضي الكثير من أوقاته في " وان" قرب إحدي خرائب مهجورة قديمة على جبل " أرك" واستمر على الاعتكاف والانزواء وكأن الله يهيئه لمواجهة الخطوب الهائلة والأعاصير المدمرة التي أوشكت أن تهب على الإسلام يقول عنه أحد طلابه :
" كان يقوم لصلاة التهجد كل ليلة وكنت أحيانا أراه وهو يصلي فلا استطيع النوم وعندما كان يراني مستيقظا يقول لى :" ما دمت مستيقظا فتعال وشاركني في الدعاء " ولكن كنت أجهل قراءة أى دعاء فكان يقول لي : سأدعو أنا وردت أنت بعدي : آمين ".
وكنت أغفوا أحيانا أثناء الدعاء فكان ينظر إلى ويقول : لقد كنت أنا أيضا مثلك .. ولكن ستتعود ".

  - وجاء من يدعوه إلى تأييد ثورة الشيخ سعيد بيران ضد الحكومة الكمالية العلمانية المعادية للإسلام، فأبى تأييدها
·        ونسجل هنا حوار جري بينه وبين " حسين باشا " رئيس احدي العشائر الكردية :
حسين باشا  : أريد أن أستشيرك في أمر إن جنودي حاضرون والخيول موجودة وكذلك الأسلحة والذخائر وأنا انتظر أمرا منكم.
سعيد النورسي : ماذا تقول ؟ ما الذي تنوي فعله ؟ ومن ستحارب ؟
حسين باشاسنحارب مصطفى كمال .
سعيد النورسيومن هم جنود مصطفى كمال ؟
حسين باشا : ماذا أقول .. أنهم جنود !!
سعيد النورسي : إن جنوده هم أبناء هذا الوطن هم أقرباؤك وأقربائي فمن تقتل ؟ ومن سيقتلون؟ فكر .. وافهم ! أنك تريد أن يقتل الأخ أخاه ..
حسين باشا : إن الموت لأفضل من مثل هذه الحياة .
سعيد النورسي : وما ذنب الحياة ؟ إذا كنت قد مللت حياتك فما ذنب المسلمين المساكين ؟
حسين باشا : ( متحيرا) لقد أفسدت على عزيمتي ورغبتي ولا أدري كيف سأقابل عشيرتي التي هي بانتظار عودتي وسيظنون أنني جبنت .. لقد أضعت قيمتي بين العشيرة .
سعيد النورسي : وماذا لو كانت قيمتك صفرا بين الناس وكنت مقبولا عند الله تعالي ؟
وعندما قال له " حسين باشا " بأنه يريد من ثورته تطبيق الشريعة الإسلامية قال له سعيد النورسي أتريد تطبيق الشريعة الإسلامية أن تطبيق الشريعة لا يكون بهذه الطريقة فلو قلت لك :
يا حسين باشا تعالي مع جنودك الثلاثمائة لتطبيق الشريعة فإن جنودك – وهم في طريقهم إلى هنا سيقومون بنهب وسلب وقتل كل من يمرون عليهم في الطريق .. وهذا مخالف للشريعة ".

وهذا يدل على أن الأستاذ سعيد النورسي – مع عدم رغبته في إهراق دماء المسلمين – لم يكن يثق في هؤلاء الأشخاص ومدي وعيهم الإسلامي ومدي قدرتهم على تمثيل الإسلام .

·        ولكن هذا الموقف، وذلك الانقطاع للعبادة، لم ينجياه من غضب حكومة أنقرة التي أمرت بالقبض عليه، ونقله إلى إستانبول، ومن ثَمَّ إلى مدينة "بوردور" ثم إلى "بارلا" في جو بارد من شتاء عام 1926 القارس، فقد كان الجو باردا، ومياه البحيرة متجمدة وأحد جذافي القارب الذي يحمله إلى منفاه في المقدمة يكسر الثلوج بعصا طويلة في يده، ليفتح بذلك طريقا للقارب الشراعي.

المرحلة الثانية من حياته - سعيد الجديد - :

في تلك الفترة كانت تركيا تعيش دورا حالكا جدا من الاستبداد والطغيان والعداء الصريح الشرس للدين ومحاولة إطفاء نور الله ومحاربة شريعته باسم التمدن والحضارة .
استمرت هذه الفترة مدة ربع قرن من الزمان " حتي سنة 1950 م" وكانت النية معقودة على قطع صلة الأمة التركية بإسلامها قطعا جذريا فلما رأوا صعوبة ذلك خططوا لكي ينشأ الجيل المقبل نشأة بعيدة عن الإسلام وذلك بتجفيف كل الينابيع التي تغذي روحه وعقله بالإسلام ومبادئه الفطرية ..
 -  فمنعوا تدريس الدين في المدارس وبدلوا حروف الكتابة العربية إلى الحروف اللاتينية وأعلنوا علمانية الدولة وشكلوا محاكم زرعت الخوف والإرهاب في طول البلاد وعرضها حيث نصبت المشانق للعلماء المسلمين ولكل من تحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة.
   ومن سلسلة محاربة الإسلام اعتقال الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي وهو العالم الورع المتفرغ للعبادة ونفيه إلى "
بارلا" وهي بلده صغيرة نائية لكي يخمل ذكره ويقل تأثيره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الإسلامي الفياض .
ولكن شاء الله تعالي أن تكون هذه البلدة الصغيرة مصدرا لإشعاع إسلامي أضاء فيما بعد أرجاء تركيا ووصل أشعاعه إلى كل قرية وكل ناحية وكل مدينة فيها .
وفي بارلا بدأت المرحلة الثانية من حياة بديع الزمان، وهي المسماة مرحلة سعيد الجديد وقد كانت حافلة بالاتهامات والملاحقات والمطاردات والسجون والمعتقلات والمحاكمات والمنافي، مما لم يمر في حياة إنسان وهو صابر محتسب، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، شعاره في ذلك:
"أعوذ بالله من الشيطان والسياسة".

·        العزلة ورسائل النور :

وفي هذه البلدة صنع له أحد النجارين غرفة خشبية صغيرة غير مسقوفة، وضعت بين أغصان شجرة الدلب العالية حيث كان النورسي يقضي فيها أغلب أوقاته في فصلي الربيع والصيف، متعبدا لله، متأملاً متفكراً، وعاكفاً على تأليف رسائل النور طوال الليل، والناس يسمعون همهمات العالم العابد المتهجد، ولا يستطيعون الاختلاط به ومحادثته، والإفادة من علمه، لأن هذا محظور عليهم وسوف يكلفهم كثيراً.

أمضى النورسي في "بارلا" ثماني سنوات ونصف السنة، ألَّفَ فيها أكثر رسائل النور، وهو يعاني من عدة أمراض، ولا يشتهي الطعام، بل كان يكتفي من الطعام بكسيرات من الخبز مع قليل من الحساء "الشوربة" ولا يقبل هدية ولا تبرعاً ولا زكاة من أحد... كان- كما قال عن نفسه- يعيش على البركة والاقتصاد.

  *  وفي هذه المرحلة كان يؤلف ويكتب باللغة التركية المكتوبة بالحروف العربية، ويأمر تلاميذه بالكتابة بالحروف العربية، حفاظا عليها من النسيان، فقد كان أتاتورك قد ألغى الكتابة بالحروف العربية واستبدل بها الحروف اللاتينية.

-       إنقاذ الإيمان :
في تلك السنوات الحالكة كان الإسلام يتعرض لزلزال كبير في تركيا فالحرب ضد الإسلام تقودها الحكومة بكل أجهزة الدعاية الإعلام التي تملكها وبأقلام جميع المنافقين والمتزلفين وأعداء الإسلام من الكتاب والصحفيين في الوقت الذي كممت فيه أفواه دعاه الإسلام وحيل بينهم وبين الدفاع عن عقيدتهم لذلك فقد تعرضت أسس الإسلام وأصوله ومبادئه الأولية إلى الشك والإنكار في النفوس كثير من الشباب الذي لم يكن يجد أمامه مرشدا وموجها لذلك فقد قرر الأستاذ سعيد النورسي أن يحمل تلك الأمانة الكبرى على كاهله وأن يحاول " إنقاذ الإيمان " في تركيا .
نعم .. إنقاذ الإيمان تلك كانت هي المسألة الرئيسية التي لا تحتمل التأجيل أو التسويف أو الاهتمام بأى أمر عداها لذلك فإنه كان يصحح مفاهيم الذين يزورنه وهم يتصورون أنه شيخ طريقة صوفية فكان يقول لهم :
" أنني لست بشيخ طريقة فالوقت الآن ليس طرق صوفية بل وقت إنقاذ الإيمان " فنري أن من أولي الرسائل التي ألفها هي ( رسالة الحشر) حيث أن مسألة البعث ووجوم يوم القيامة ويوم الحشر أصبحت تصور من قبل الدوائر الملحدة وكأنها خرافة أو أسطورة لا سند لها من دليل عقلي او علمي وقد شرح الأستاذ في هذه الرسالة مسالة البعث والحشر مستلهما من الأسماء الحسني موردا فيها شواهد الموت ويقظته نوع من البعث النباتات تذبل تموت ثم لا تلبث أن تورق وتزهر من جديد .. أنها عملية بعث جديد تتكرر أمام أنظارنا على الدوام فلم الاستغراب إذن من البعث يوم القيامة؟!
كان تأليف " رسائل النور" ونشرها شيئا متميزا وفريدا في تاريخ الدعوات الإسلامية المعاصرة ذلك لأن الأستاذ سعيد النورسي لم يكن يكتب كثيرا من رسائله بيده لكونه نصف أمي " من حيث القدرة الكتابية" وإنما كان يملي هذه الرسائل على بعض طلابه في حالات من الجيشان الروحي والوجداني وبعد ذلك تتداول النسخة الأصلية بين التلاميذ الذين يقومون بدورهم استنساخها باليد ثم ترجع هذه النسخ جميعها إليه لكي يقوم بتدقيقها واحدة وتصحح أخطاء الاستنساخ إن وجدت ولم يكن لديه أية كتب أو مصادر يرجع إليها عند التأليف سوي القرآن الكريم وقد ساعده على ذلك ما وهبه الله من ذاكرة خارقة وقدرة عجيبة على لحفظ فكان يستقي عند تأليفه رسائله من مخزونات محفوظاته في مصادر العلوم الدينية التي كان قد قرأها في بداية حياته .

 *  وقد أسهمت النساء بنسخ الرسائل- الكتب- التي كان يمليها بديع الزمان على بعض تلاميذه في غفلة من الرقباء لأنه كان منفيا وموضوعا تحت الرقابة، ثم يقوم هؤلاء بتهريبها إلى النساء، ليسهرن في استنساخها، ويقضين الليالي في ذلك، حتى إذا أنجزنها، سارت بها ركبان طلبة النور في طول البلاد التركية وعرضها.

ورسائل النور هذه تدعو إلى إنقاذ الإيمان، وعودة الإسلام إلى الحياة.

وتصدى بها للعلمانيين والقوميين والسياسة الميكيافيلية القائمة على التزلف والنفاق والمصالح الشخصية. السياسة التي نَحَّتِ الدين جانبا، وولَّى أصحابها وجوههم نحو أوروبا، والسير في ركابها. ولهذا رأيناه في هذه المرحلة، يقف- بكل قوة- في وجه التيارات الإلحادية الشاملة، برغم ضراوة الهجمة وشراستها، وبرغم ما تعرَّض له من نفي وسجن واعتقال.

  *  وهذا يعني، أن شعاره في هذه المرحلة: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" لا يعني أنه تخلَّى عن السياسة فعلا، بل أراد به حماية تلاميذه من شرور الأشرار السياسيين، ومع ذلك، لم ينجح هو ولا تلاميذه من الملاحقة والمحاكمات والسجون التي أطلق عليها النورسي وتلاميذه اسم: المدرسة اليوسفية.

·        وقد جاء في قرار اللجنة المدققة لرسائل النور في مدينة (دنيزلي):

"ليس لبديع الزمان فعالية سياسية، كما لا يوجد أي دليل على أنه يؤسس طريقة صوفية، أو قائم بإنشاء أي جمعية، وإن موضوعات كتبه تدور كلها حول المسائل العلمية والإيمانية وهي تفسير القرآن الكريم".

- عندما أطلق سراحه في الخمسينيات، كان في السابعة والسبعين من العمر، وكان يقول لزائريه أو الذين يرغبون في زيارته:

"كل رسالة- من رسائل النور- تطالعونها، تستفيدون منها فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف"..

وكان قد طلب أكثر من مرة من تلاميذه طلبة النور، ألا يربطوا الرسائل بشخصه الضعيف، فيحطوا من قيمتها، لأن للإنسان أخطاء وعيوبا قد سترها الله عليه.

كما كان يدعو تلاميذه إلى عدم التعلق به، لا في حياته، ولا بعد مماته، فذلك له أضرار جسيمة على الدعوة.

- وكان النورسي يحب أعالي الجبال، كما كان يحب أعالي الأشجار الباسقة الشاهقة، وكان يفضل الصلاة على الصخور المرتفعة، وكان يقول لتلاميذه:

"لو كنتُ في قوة شبابكم هذا، لما نزلت من هذه الجبال."

لقد كان النورسي أمَّة في رجل، وربَّى تلاميذه بالقدوة، وحياته كانت أكبر كرامة.. إنه رجل عصر المصائب والبلايا والمهالك- كما قال عن نفسه- وهو عصرنا، وقد هيأ الأدوية الناجعة للجروح الإنسانية الأبدية، وقدَّمها إليها خلال رسائله وكتبه التي هي من نور القرآن العظيم.

·        وفاته:

توفي بديع الزمان النورسي في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1379هـ الموافق للثالث والعشرين من شهر آذار 1960م تاركاً موسوعة إيمانية ضخمة تسد حاجة هذا العصر، وتخاطب مدارك أبنائه، وتدحض أباطيل الفلاسفة الماديين، وتزيل شبهاتهم من أسسها، وتثبت حقائق الإيمان وأركانه بدلائل قاطعة، وبراهين ناصعة، جمعت في ثمانية مجلدات ضخام، هي:
 الكلمات- المكتوبات- اللمعات- الشعاعات- إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز- المثنوي العربي النوري- الملاحق- صيقل الإسلام. وقد ترجمت إلى اللغات العربية والإنكليزية، والألمانية، والأردية، والفارسية، والكردية، والفرنسية، والروسية وغيرها، ودفن في مدينة (أورفه).

وبعد الانقلاب العسكري في تركيا في 27/5/ 1960 قام الانقلابيون العسكر بنقل رفات الإمام النورسي إلى جهة غير معلومة.

وقد وصف شقيقه الشيخ عبد المجيد النورسي نقل رفات أخيه بديع الزمان في مذكراته، بعد خمسة أشهر من وفاته، فقد قالوا له:

"سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من أورفه".

وقاموا بهدم قبر بديع الزمان، وقلت في نفسي: "لابد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً، ولكن ما إن لمست الكفن، حتى خيل إليّ أنه قد توفي بالأمس. كان الكفن سليما، ولكنه كان مصفراً بعض الشيء من جهة الرأس وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء.





[1]  - الماسونية : تنظيم الماسونية أو البناؤون الأحرار[1] هي منظمة أخوية عالمية يتشارك أفرادها عقائد وأفكار واحدة فيما يخص الأخلاقالميتافيزيقيا وتفسير الكون والحياة والإيمان بخالق إلهي, تتصف هذه المنظمة بالسرية والغموض الشديد خاصةً في شعائرها في بدايات تأسيسها مما جعلها محط كثير من الأخبار حول حقيقة أهدافها، في حين يقول الكثير من المحلّلّين المتعمقين بها أنها تسعى للسيطرة على العالم وتوحيدهم ضمن أفكارها وأهدافها كما أنها تتهم بأنها "من محاربي الفكر الديني" و"ناشري الفكرالعلماني".
[2]  عصر المشروطية الثانية، هو الفترة التي بدأ فيها إعلان الدستور العثمانى من جديد في 24 تموز 1908 م، بعد أن ظل معلق تسعة وعشرين عاماً وهي أيضا تعد فترة التصفية النهائية للدولة العثمانية في 5 نوفمبر 1922م.

[3]   حادث 31 مارس (بالتركية: 31 Mart Vakası أو حادث 31 مارت)، هو تمرد حدث في 1909 من أنصار السلطان عبد الحميد الثاني في اسطنبول ضد الانقالب العثماني المضاد الذي حدث في مارس.
رأى الاتحاديون ضرورة التخلص من السلطان عبد الحميد وإسقاط حكمه، واتفقت هذه الرغبة مع رغبة الدول الأوروبية الكبرى خاصة بريطانيا التي رأت في ذلك الخطوة الأولى لتمزيق الإمبراطورية العثمانية، وشعر اليهود والأرمن أنهم اقتربوا كثيرًا من أهدافهم؛ لذلك كانت أحداث 31 مارس؛ حيث حدث اضطراب كبير في إستانبول قتل فيه بعض جنود الاتحاد والترقي.

0 comentarios:

Publicar un comentario