domingo, 4 de septiembre de 2016

وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين

0 comentarios

  -    قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة الرحمة ، فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله يقول : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )، فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ، كما قال عليه السلام : حياتي خير لكم و موتي خير لكم و كما قال عليه الصلاة و السلام : إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً .

بعضهم يقصرها في أتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) بخاصة، ويقول هو رحمة بأهل الإيمان فقط، والواقع يشهد بهذا، فإن من كفر به قاتلهم وقاتلوه، وماتوا على الكفر.
يرى آخرون أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رحمة في نفسه، وهدى، فمن أخذ به من أفراد العالمين أخذ ، فأفاد من هذه الرحمة، ومن أعرض عنه أعرض، ولم ينتفع بهذه الرحمة.

   -كأن نقول مثلاً هذا الطبيب الماهر، رحمة بأهل هذه البلدة، فمن تنبه له ووثق به، ذهب إليه، وأفاد منه، وانتفع بعلمه، فكان الطبيب له رحمة، ومن أعرض عنه وتجاهله، لم تشمله هذه الرحمة.
إن أغلب من قرأت لهم، في معنى هذه الآية ، ذهبوا، إلى عمومها، وشمولها لكل ما يدخل تحت لفظ العالمين من المخلوقات، وإن كان بعضهم قصرها على جنس الإنسان، بحجة أن العالم هو الصنف من أصناف ذوي العلم، هو الإنسان، لكن المشهور عنهم أن العالمين تشمل النوع من المخلوقات ذات الحياة، وهذا هو المعنى المعقول، الذي تشهد له المظاهر التي سبق عرضها، وأملي أنكم تتذكرون كثيراً منها .
لكني اعترف أنها غير كافية لإلقاء الضوء على دلالات الرحمة لكل المخلوقات، وهو ما يملي علينا أن نتوسع قليلاً في البيان، وأرجو المعذرة والصبر قليلاً، ولن يكون الحديث طويلاً.

أن ثمة اتحاداً وتلازماً بين شخص النبي (صلى الله عليه وسلم) وبين خلق الرحمة
تدل الآية على أن ثمة اتحاداً وتلازماً بين شخص النبي (صلى الله عليه وسلم) وبين خلق الرحمة، فلا انفكاك في كل الأحوال، وعلى أية حال، كان عليها النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهذا المعنى يؤيد توجيه الآية إلى رحمة المخلوقات جميعاً، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) في سيرته اليومية لا يتعامل فقط مع المؤمنين، ولا من الناس فقط.
رحمته بالمومنين :

لن نجد صعوبة، في بيان رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمؤمنين، فمظاهرها متنوعة، وأسبابها متعددة، وصورها أكثر من أن تحصى، سواءً ما كان منها في مجال التشريعات، وما صاحبها من تخفيف، وتلطف، وتقدير للظروف، أو ما كان منها في مجال العلاقات الاجتماعية، والشخصية، وهي لكثرتها، تكاد تجد لدى كل من صاحب النبي (صلى الله عليه وسلم) .وإن كان عددهم بالآلاف، موقفاً خاصاً، أو ذكرى عطرة، أو محاورة لطيفة معه، وكتب الأحاديث تكاد تسعفنا في هذا المقام.

الرحمة في المنهج الذي جاء به
وانطر مقارنة مثلا على ما كان عليه النصارى : "أصدر القديس كولبمان عقوبات صارمة على أتباعه منها: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة، أو إذا تبسم أثناء الصلاة، واثنا عشر سوطًا عقاب الراهب إذا نسي أن يدعو الله قبل الطعام، وخمسون عقاب المتأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع، ومائتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة" .[1]
هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!
لقد بلغت رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته حدًّا لا يتخيله عقل، حتى إن الأمر وصل إلى خوفه عليهم من كثرة العبادة!، مع أن التقرب إلى الله والتبتل إليه أمر محمود مرغوب، بل هو مأمور به، لكنه  صلى الله عليه وسلم كان يخشى على أمته من المبالغة في الأمر فيفتقدون التوازن في حياتهم، أو يصل بهم الأمر إلى المَلل والكسل، أو يصل بهم الحد إلى الإرهاق الزائد عن طاقة الإنسان، لذلك رأيناه كثيرًا ما يُعرِضُ عن عملٍ من الأعمال، مُقرَّبٍ إلى قلبه، محببٍ إلى نفسه، لا لشيء إلا لخوفه أن يُفرَض على أمته فيعنتهم ويشق عليهم...
   -  تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "إن كان رسول  صلى الله عليه وسلم  لَيَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به فيُفرَض عليهم"[3]، وفي رواية: " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب ما خفَّ على الناس من الفرائض"[4]؛ ولذلك كان كثيرًا ما يقول كلمة: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي»، دلالة على أنه يحب الأمر، ولكنه يخشى الفتنة على الأمة...
فكان  صلى الله عليه وسلم لا يخرج في كل المعارك لكي لا يتحرَّج الناس في الخروج في كل مرة، وكيف كان لا يؤخر صلاة العشاء إلى منتصف الليل، وكيف رفض الخروج إلى قيام الليل جماعة في رمضان خشيةَ أن يُفرَضَ على المسلمين، وكيف تأخر في الردِّ على من سأل عن تكرار الحج في كل عام خشية فرضه بهذه الصورة على المسلمين، وهكذا...

رحمته على جفاء الناس وغلظتهم وسوء أدبهم وهو خير خلق الله على الإطلاق :
كما طبع حسن الخلق تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وحوارييه رضيَ الله عنهم، رغم اختلاف طبائعهم، وتفاوت أخلاقهم، فقد كان منهم الشديد والرفيق، والأعرابي الجلف والحضري المتمدن، وكان منهم الصغير والكبير، والشريف والوضيع، ولم يشك أحد منهم هضما لجانبه أو تحقيرا لشأنه، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

·        رحمته بالاعراب .... وقصصهم في ذلك .
وعن محمَّد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم أنه: ( بينما يسير هو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقفله (رجوعه) من حنين، فَعَلِقَهُ (تبعه) الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة (شجرة)، فخطفت رداءه، فوقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه (شجر له شوك) نعما، لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا ) رواه البخاري .
  - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه ـ قال : ( فلما كان يوم حنين آثر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال : فقلت: والله لأخبرن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قال: فتغير وجهه حتى كان كالصِرف (صبغ أحمر)، ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟!، قال : ثم قال : يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا ) رواه مسلم .
      *  يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد تعليقا : " ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل .. ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله " .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنت أمشى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه (جذبه) بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم أمر له بعطاء ) رواه مسلم، وفي رواية النسائي ( ضعفها الألباني ) أن الأعرابي قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " فإنك لا تعطي من مالك ولا مال أبيك " .
  -  عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( ابتاع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذّخيرة (العجوة)، فجاء منزله، فالتمس التمر، فلم يجده، فخرج إلى الأعرابي فقال: عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذّخيرة، ونحن نرى أن عندنا، فلم نجده، فقال الأعرابي: واغدراه، واغدراه، فوكزه الناس وقالوا:إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ تقول هذا؟!، فقال: دعوه، فإن لصاحب الحقّ مقالا، فردد ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ مرتين أو ثلاثا، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يقول لك إن كان عندك وسق من تمر الذّخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى، فذهب إليها الرجل ثم رجع قال: قالت: نعم هو عندنا يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ للرجل: اذهب فأوفه الذي له، فذهب فأوفاه الذي له، قال فمرَّ الأعرابي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيرا، فقد أوفيْتَ وأطيبت، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ: أولئك خيار الناس الْمُوفُونَ الْمُطَيِّبُون (الذين طيب الله أوصافهم) ) رواه أحمد وحسنه الألباني .

رحمته بالأمة إلى يوم القيامة :
فهو  صلى الله عليه وسلم لم يكن كزعماء الدنيا الذين ينظرون إلى أحوال أمتهم في زمانهم فقط أما ما يأتي بعد ذلك فلا يهتمون به ولا يخططون له...
إنه كان  صلى الله عليه وسلم دائم الشغل بأمته في كل الأزمان، ودائم الفكر لهم، وهو ما ظهر في كلمات كثيرة، وفي مواقف عديدة.
-    يروي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي  صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم من الآية:36]، وقال عِيسَى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فرفع يديه وقال: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى، فقال الله: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله بما قال وهو أعلم، فقال الله: "يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ .[2]
·        وتذكر كيف يكون عليهم يوم القيامة شهديا : حينما سمع قوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فبكى عليه الصلاة والسلام
نأتي إلى رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بالكافرين

 1. أن وجود النبي (صلى الله عليه وسلم) بينهم، حال دون نزول عذاب الاستئصال بهم، كما حصل مع عض الأمم السابقة لهم، مثل قوم عاد، وثمود، ولوط. وهذا المظهر نص عليه القرآن صراحة:(وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال : 33 )، وتلك رحمة ما بعدها رحمة، نعم بها الكافرون جميعاً.
و قال السمرقندي: رحمة للعالمين: يعني للجن و الإنس. و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، و رحمة للمنافق بالأمان من القتل ، ورحمة للكافر بتأخير العذاب .


    -   قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو رحمة للمؤمنين وللكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة
  
-    عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: أنزل الله علي أمانين لأمتي ، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار.

2. أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يرفض بشدة، أن يدعو عليهم، ولو دعا عليهم، لاستجاب الله له، كما استجاب لدعوة غيره من الأنبياء، كمثل دعوة النبي نوح : (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) (نوح: 26 )، فأغرق الله جميع سكانها، ولم ينج إلاَّ قلة كانت مع نوح في السفينة.
      ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول‏:‏ ‏‏(‏كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله‏)‏، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏128‏]‏ ‏.‏ 
      * وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ‏:‏ ‏‏(‏اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله‏)‏، ثم مكث ساعة ثم قال‏:‏ ‏‏(‏اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏ ، وفي صحيح مسلم أنه قال‏:‏‏‏(‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏ ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال‏:‏ ‏‏(‏اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏ 
     - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن دوسا قد هلكت ، عصت وأبت ، فادع الله عليهم ، فظن الناس أنه يدعو عليهم ، فقال : ( اللهم اهد دوسا وأت بهم ) . متفق عليه .

3. تجنب النبي (صلى الله عليه وسلم) بكل الوسائل الصدام معهم، فقد منع مقاتلتهم مدة ثلاثة عشر عاماً، وحين قاتلهم، كان حريصاً على إنهاء الصراع سريعاً، ويشهد لهذه قلة عدد المعارك بينهم، وقلة عدد القتلى كذلك .
·        تبين أثر مظهر الرحمة هذا بإسلام الآلاف من الكفار تباعاً، حتى أسلم أهل مكة كلهم يوم الفتح.
4. شعور عامة الكفار برحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بهم ، وشفقته عليهم، وقد دلت على هذا الشعور معاملته لهم، ومعاملتهم له، وأنتم تذكرون حين كانوا يأتون إليه، طالبين منه العون، في شؤون حياتهم، فيستجيب لهم ، وهم على كفرهم به، وعلى عداوتهم له .

5. أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يعاملهم بالمثل، وقد مرَّ بنا تفصيل هذا المظهر، فقد عذبوه، وعذبوا أصحابه، ولم يعذبهم، ومارسوا عليه، وعلى أصحابه، سياسة التجويع، ولم يمارسها، وأخرجوه، ولم يخرجهم، قتلوا أسراه، وعفا عن أسراهم.

  *   فأهل الطائف الذين سمعتم بخبر ما فعلوا بالرسول، لما أسلموا عفا عنهم.

  *   وهاكم الموقف الأكبر، المثل الأعلى في بابه، في كل العصور: أهل مكة الذين جرعوه وأصحابه الصَّاب والعلقم، وآذوه في جسده ونفسه وعقيدته، وقالوا عنه، ونالوا منه، ومن أصحابه، وقاطعوه، وحبسوه في الشِّعب، ووضعوا الشوك في طريقه، وألقوا على رأسه كرش الناقة، وهو ساجد، وسخروا منه أنواع السخريات، واستمر ذلك لا يوما ولا يومين، ولا سنة ولا سنتين، ولكن ثلاث عشرة سنة، ثم حاربوه وذبحوا أقرباءه وأصحابه، حتى ظفر بهم، وأقامهم أمامه حول الكعبة، أذلاء لا يملكون دفاعا، وجاءت ساعة الانتقام... لا ، دعُوا كلمة الانتقام فإنها لا تليق بالمقام، ساعة العقوبة المشروعة، التي يكون فيها الرد على هذه السلسلة الطويلة من التعديات والإساءات وها هو ذا يقول لهم: "ماذا ترون أني فاعل بكم؟".
إنهم يذكرون ما صنعوا ويعرفون ما يستحقون، ولكن يذكرون أيضا خلق محمد ويعرفون مثله، فيقولون: "أخ كريم، وابن أخ كريم". ويسكتون في انتظار الحكم القطعي.

 ولو كان الحكم بقتلهم جميعاً، لما وجد من كتّاب التاريخ الصديق منهم والعدو من يلومه بكلمة، ولكن حكم محمد كان غير ذلك، كان مفاجأة لا يتوقعها أحد، مفاجأة أدهشت عصره وكل عصر يأتي بعده، قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

·         حتى إنه لما  َأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صلي الله عليه وسلم رَايَتَهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَهُوَ أَمَامَ الْكَتِيبَةِ ، فَلَمّا مَرّ سَعْدٌ بِرَايَةِ النّبِيّ صلي الله عليه وسلم نَادَى : يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ، الْيَوْمَ أَذَلّ اللّهُ قُرَيْشًا.
فلما بلغ الرَسُول صلي الله عليه وسلم الخبر قال : «الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمَ أَعَزّ اللّهُ فِيهِ قُرَيْشًا»  وعزل سعدا وأعطى الراية لغيره .


  وانظر ماذ وقع مع صفوان بم أمية يوم فتح مكة ، راح عمير بن وهب يُناشد صفوان الإسلام ويدعوه إليه، بيْد أن صفوان شدّ رحاله صوب جدّة ليبحر منها الى اليمن، فذهب عمير الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال له: { يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر، فأمِّـنه صلى الله عليك }.
فقال النبي: { هو آمن }.
قال: { يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك }.
فأعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمامته التي دخل فيها مكة.
 فخرج بها عمير حتى أدرك صفوان فقال: { يا صفوان فِداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تُهلكها، هذا أمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد جئتك به }.
قال له صفوان: { وَيْحَك، اغْرُب عني فلا تكلمني }.
قال: { أيْ صفوان فداك أبي وأمي، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضـل الناس وأبـر الناس، وأحلـم الناس وخيـر الناس، عِزَّه عِزَّك، وشَرَفه شَرَفـك }.
قال: { إنـي أخاف على نفسـي }.
 قال: { هو أحلم من ذاك وأكرم }.
 فرجع معه حتى وقف به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال صفوان للنبي الكريم: { إن هذا يزعم أنك قـد أمَّـنْتَنـي }.
قال الرسـول -صلى الله عليه وسلم-: { صـدق }.
قال صفـوان: { فاجعلني فيها بالخيار شهريـن }.
فقـال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: { أنت بالخيار فيه أربعة أشهر }.
....
 ويوم حُنَين لمّا أجمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السير إلى هوازن ليلقاهم، ذُكِرَ له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً له وسلاحاً، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك، فقال: { يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا نلقَ فيه عدونا غداً }.
       فقال صفوان: { أغصباً يا محمد ؟}.
      قال: { بل عارِيَةٌ ومضمونة حتى نؤديها إليك }.نه
      قال: { ليس بهذا بأس }.
وقد هلك بعضها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: { إن شئت غَرِمتُها لك ؟}.
      قال: { لا، أنا أرغبُ في الإسلام من ذلك }.

تصور لو أن رجلا قتل أحبّ الناس إليك وأعزهم عليك، ثم جاءك مستسلما لدعوتك (وأنت الداعية)، هل تنسى ما ذرفت من ماء العين على قريبك، وما أرقت عليه من دمع القلب... وتعفو؟
لقد عفا الرسول عن (وحشي) قاتل (حمزة)، لما أسلم، لكن غلبته طبيعته البشرية، فيما لا يخالف الإسلام، ولا يضر الرجل، فقال له: " لا تجعلني أراك "، فكان يتوارى عن عينيه.

وهند، هند امرأة أبي سفيان، التي بلغ من حقدها على محمد ودعوته، أن فعلت ما لا تفعله امرأة، ولا يفعله إنسان، ولا يفعله الذئب، ولا النمر. شقت صدر حمزة وأخرجت قلبه وأكلته.. هند التي فعلت في حرب الرسول الأفاعيل، لقد عفا عنها وبايعها وقَبِل إسلامها


*  وفي الحديث كيف أنه دعا على قريش بالقحط ثم جاءت تسأله الدعاء فدعا لهم حتى سقو :
 -  فعن مسروق قال أتيت ابن مسعود فقال إن قريشا أبطئوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي  فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام فجاءه أبو سفيان فقال يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك هلكوا فادع الله فقرأ (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ثم عادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون يوم بدر.)
 قال أبو عبد الله وزاد أسباط عن منصور فدعا رسول الله  فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا وشكا الناس كثرة المطر قال اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقوا الناس حولهم .البخاري

الصنف الثالث المنافقون.
المنافقون فئة من الناس، كانوا يسكنون المدينة مع النبي (صلى الله عليه وسلم) آمنوا به في الظاهر، واستمروا على كفرهم به في الباطن، وقد سلكوا هذا المسلك، لما رأوا أنه من رحمته بالناس أنه يعاملهم على ما يبدو منهم في الظاهر، ويكل السرائر إلى الله، فسلكوا هذا الطريق المظلم.
·        ولا يتسع المقام لسرد الأخطار التي واجهها النبي (صلى الله عليه وسلم) بسبب المنافقين، ولا الأضرار التي لحقت بالمسلمين من جهة المنافقين.
أذكر في عجالة محاولة عبد الله بن سلول ، زعيم هؤلاء المنافقين ، النيل من شرف بيت النبوة ، حتى أتهم زوج النبي عائشة، وكانت أحب نسائه إليه، حين اتهمها بالزنا، فأنزل الله تعالى قرآناً يكذب هذه الفرية، ويبرئ عائشة، فكان مما جاء في هذا قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور : 11
).
من الأضرار التي لحقت بالمسلمين، انسحاب عبد الله بن سلول بثلث الجيش في غزوة أحد، فترك هذا التصرف أثراً سيئاً في نفوس المسلمين، ومنها أيضاً تعاون المنافقين مع أعداء النبي (صلى الله عليه وسلم) في كل موطن(1).
لقد بدت من النبي (صلى الله عليه وسلم) مظاهر رحمة بهؤلاء ، رغم شدة عداوتهم وخطورتهم، وعلى رأسهم خصم النبي (صلى الله عليه وسلم) العنيد عبد الله بن سلول(1)، منها:

المظهر الأول : أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يفضح أمرهم بين الناس، فقد كان يعرف أسماءهم، حين أخبره الله بهم، ولكنه ستر عليهم، وهذه رحمة بارزة بهم، وهي رحمة بأقاربهم المسلمين الصادقين، دفعاً للحرج عنهم.

المظهر الثاني : لم يقتل أحداً منهم، مع أنهم يستحقون القتل، لأنهم أشد خطراً عليه، من الكفار البعيدين، فقد تركهم وشأنهم، وكان يعاملهم كما يعامل المسلمين.

المظهر الثالث : أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يوبخ المنافقين، دون توجيه الكلام إلى أحد منهم صراحة، ولكنه كان يحذر من النفاق، ويقرأ عليهم آيات الوعيد، وينذرهم بالعذاب الشديد الذي ينتظرهم، ولقد أثمر هذا الأسلوب، وترك عدد منهم النفاق، وحسن إسلامهم، فكان الستر عليهم، وعدم قتلهم رحمة بمن راجع نفسه، وتاب إلى الله وحسن إسلامه.
تدعو الأمانة العلمية، واحترام الحاضرين الكرام، أن أشير إلى أن بعض العلماء اعترف بهذه المواقف ولكنه اعترض على اعتبارها من مظاهر الرحمة لأن المنافقين لا يستحقون الرحمة (2)، وهي على أية حال، تبقى وجهات نظر.
أهل الكتاب من اليهود والنصارى

 ويمكن أن نعرض هذه الرحمة ضمن المظاهر التالية:
1. أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خصهم بما لم يخص به العرب ـ أهله وعشيرته ـ ، حين قبل منهم البقاء على دينهم، ولم يقبل هذا من العرب، حين خيرهم بين الإسلام أو القتال.
في حين خير اليهود والنصارى بين الإسلام، أو الجزية، وهي مبلغ يدفعونه، مقابل حماية المسلمين لهم.
واسمحوا لي أن انتقل من عصر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى القرن السابع الهجري، حين دخل هولاكو بغداد، وأسر عدداً من المسلمين،والنصارى، واليهود، فذهب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية يطالب بطلاق سراح الأسرى، قال له هولاكو نطلق سراح المسلمين، ونبقي اليهود والنصارى، فلا شأن لك بهم، فرفض ابن تيمية هذا العرض، وقال يطلق هؤلاء قبل المسلمين، لأنهم في حماية المسلمين، وتحت رعايتهم، فأعجب به هولاكو، وأطلق سراحهم جميعاً(1).

2. أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أقام العدل بين من كان يعيش منهم بكنفه، وقد أوصاه الله بهذا، فقال له: (فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(المائدة:42

ا3. حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على أن يعامل أهل الكتاب، معاملة حسنة، وسعى إلى إغلاق الأبواب التي تؤدي إلى إلحاق الأذى بهم، ولقد وقفت على رواية مفادها، أنه كان في المدينة زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) جالية نصرانية صغيرة، تسكن في حي يسمى سوق النبط .
  -  ولا أذكر حتى هذه اللحظة أنه قتل نصراني واحد عند النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ولكن للأسف الشديد قتل الكاثوليك زمن كارلوس الخامس عام 1521م أكثر من نصف مليون من النصارى البروتستانت، كما بلغ عدد من أحرقوا بالنار 230 ألف من البروتستانت أيضاً .
وتدلنا أعزائي الحضور ، مقابلة النبي (صلى الله عليه وسلم) لوفد نصارى نجران، على حسن معاملته للنصارى في عصره، وهي منطقة قريبة من مكة، كان أهلها نصارى، جاءوا إلى المدينة، فاستقبلهم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتلطف معهم، وأوضح لهم معالم الحق، ثم تركهم بعد ذلك على ما يرغبون، فاختاروا البقاء على دينهم ، فتركهم وشأنهم، ثم طلبوا منه أن يرسل معهم أحد أصحابه يستعينون به في إدارة أمورهم، وحل مشاكلهم، فقال , سوف أرسل معهم رجلاً أميناً، فأرسل معهم أبو عبيدة بن الجراح، وقال هذا أمين هذه الأمة.
لقد عفا عن المرأة اليهودية، التي قدمت له طعاماً مسموماً، وعفا عن لبيد اليهودي، الذي حاول إيذاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد ذكر لزوجه عائشة أنه عفا عنه لأنه لا يريد أن يثير الناس رحمة بالجميع.

4. كان من أهداف القرآن التي عمل النبي (صلى الله عليه وسلم) على إنفاذها، دمج أهل الكتاب في المجتمع، عن طريق الإذن بالزواج من نسائهم، والسماح بمخالطتهم، اجتماعياً، حين أباح الأكل من طعامهم.
  - كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يلبي دعوتهم إلى الطعام، ويزور مرضاهم، ويواسيهم في مصابهم ، ولقد تعاطف القرآن الكريم مع نصارى نجران الذين أحرقهم ملكها بسبب إيمانهم وتوعده الله بالعذاب.

5. أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بين لأهل الكتاب ما أصاب دينهم من تحريف وتبديل، وهذه المصارحة، وإن كانت صعبة عليهم، ولكنها من الحق المر، ومن مظاهر الرحمة، والمثل يقول ، صديقك من صدَقك، لا من صدَّقك، وتركهم بعد ذلك لاتخاذ القرار، بكل حرية واختيار.

6. لقد أمَّنَ النبي (صلى الله عليه وسلم) اليهود والنصارى على أموالهم وأنفسهم، وأماكن عبادتهم، وحتى على طعامهم وشرابهم، فأبقى لهم الحرية كاملة، في ما يأكلون ويشربون، بما لا يجرح شعور المسلمين، في ضوء القاعدة المشهورة بين المسلمين لا ضرر ولا ضرار.
لم أورد هذه المظاهر على سبيل الحصر، فإنها أكثر مما ذكرت بكثير، لكنها مجرد إشارات تدل بوضوح على مدى رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بإتباع الديانات الأخرى.

الرحمة الشالمة لكل مظاهر الحياة :
كان لابد من اكتمال منظومة الرحمة هذه، لتشمل كل المخلوقات، إذ لا يتصور أن يتراحم الناس فيما بينهم، في حين أنهم يمارسون صور القسوة، والتعذيب، على المخلوقات الأخرى، من الحيوانات، والطيور، فقد سبقت الإشارة إلى أن الخلق لا يتجزأ.
إن ممارسة الرحمة مع غير البشر، مظهر من مظاهر التدرج في التربية على هذا الخلق
وقد لا أبتعد عن الصواب، إذا قلت، إن ممارسة الرحمة مع غير البشر، مظهر من مظاهر التدرج في التربية على هذا الخلق، إذ ليس من اليسير أن يتحرر المرء بكل بساطة من بعض الصفات التي تحول دون ممارسته الرحمة، مع أخيه الإنسان، مثل حب الذات، وحب الانتقام، وكراهية من يسيء إليه، فكأن الرحمة بالحيوانات والطيور وسيلة وغاية في آن واحد.
حين قال النبي (صلى الله عليه وسلم) على مسمع من أصحابه: ( من لا يرحم لا يُرحم). وعندما سمعوه يقول:( ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)، فهم الصحابة منها وهم العرب، أصحاب البيان، أن الرحمة العامة الشاملة، هي المطلوبة، لنيل رحمة الله، وليست رحمة مخصوصة بفئة معينة، أو بجنس معين من المخلوقات.
·        ذلك أن أهل الأرض المشار إليهم في قول النبي هم القريب والبعيد، الصديق والعدو، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الحيوانات والطيور، لن ينال أحد رحمة الله مالم يمارس الرحمة، عن محبة وقناعة مع هؤلاء جميعاً.
لقد نهى النبي بكل وضوح، عن كثير من صور الرياضة التي يكون فيها الحيوان طرفاً، ويلحق به الأذى، فمصارعة الثيران حرام، ومبارزة الديوك بعضها مع بعض حرام، وجعل الحيوانات والطيور أهدافاً يصوَّب عليها حرام أيضاً.
-  لقد استقرت هذه الثقافة في أذهان أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فهذا عبد الله بن عمر(رضي الله عنه) يمر على قوم، وقد وضعوا طيراً وجعلوه هدفاً، يصوِّبون عليه بالسهام، فقال ابن عمر، من فعل هذا ؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن من اتخذ شيئاً فيه روح غرضاً.
 - يقول علماء النفس: أن الإنسان الذي يشاهد صور تعذيب الحيوانات، أو المناظر التي فيها قسوة وبطش، يورثه هذا قسوة في قلبه، وجرأة في طبعه يألف معها هذه المناظر، ولا يعود يميل إلى الرحمة والتسامح مع الآخر.
الخلاصة هي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يريد أن يرى على الأرض، صورة من صور القسوة، والتعذيب، ولا يرغب أن يبقى بين الناس أحد يقوم بتصرف يخلو من الرحمة، أياً كان هذا التصرف، ومع أي مخلوق كان.
يمكن أن نقول بتعبير معاصر إن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يسعى لإصدار تشريع ينص على وجوب خلو الأرض من كل تصرف يتناقض مع الرحمة، بكل صورها ومظاهرها، وفي كل ميادين الحياة.

هوة ساحقة بين الواقع الذي عاش فيها الرسول والمبادئ التي دعا إليها :
وأنا أتفق في هذا المقام مع القول القائل، إن رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة الروحية، والواقعية من مسافة، ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئاً فشيئاً من آفاق هذه المبادئ، فتزول غرابتها في حسها، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عنوانات أخرى.
إن البشرية كلها، قد تأثرت بمنهج الرحمة، الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وسلم) طائعة أو كارهة، شاعرة أو غير
-  ومعلوم كيف كان الكثير من الصحابة غلاظ القلوب يأبى أحدهم حتى أن يقبل أبناءه وكيف تحولو إلى رحماء حتى بالبهائم والحيوانات .
     -  فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قَبَّلَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الحسنَ بن عليّ رضي اللّه عنهما وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي. فقال الأقرعُ: إن لي عشرةً من الولد ما قبّلتُ منهم أحداً  فنظرَ إليه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال: "مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ".‏ 




[1] قصة الحضارة [14/ 365].
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبكائه شفقةً عليهم

0 comentarios:

Publicar un comentario