domingo, 4 de septiembre de 2016

لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة

0 comentarios

أنّ حياة العظيم الَّتِي يجدر بالناس أن يتَّخِذوا منها قدوة لهم في الحياة؛ ينبغي أن تتوفَّر فيها هذه الخصال:
1 ـ أن تكون تاريخيّة؛ أي: أن التاريخ الصحيح الممحّص يصدِّقها ويشهد لها:
إننا نعرف عن محمد كل تفاصيل حياته :
ونعود فنقول: كيف يمكن اتخاذ الأسوة الكاملة الَّتِي تطمئن لها القلوب إن لم تكن جميع نواحي الحياة في الشخصية المُقتدَى بها معلومة، وليس فيها ما يجهله الناس، وما هو مكتوم عنهم وراء حجب التاريخ ؟! إن المُقتدَى به والذي يَتخذ الناس مِن حياته أسوة لا بُدَّ أن تكون حياته كلها واضحة صافية كالمرآة، وليلها كنهارها؛ لتتبين للناس المُثُل العُليا الَّتِي يحتذونها في حياتهم بجميع أطوارها ومناحيها.
بالمقابل ماذا نعلمه عن حياة باقي المصلحين :
إذا نظرنا إلَى حياة أصحاب النِّحَل، ودعاة المِلَل، وهُداة البشر من الأنبياء والرسل، نظر الناقد البصير، وتأملنا هديهم وسيرهم؛ لم نجد فيمَن تقدم ذِكْرهم مَن يمكن أن يُتخَذ مِن حياته مَثل أعلى للحياة الإنسانية إلَّا محمد ﷺ وهديه وسيرته؛ فهو الَّذِي أرسله الله ليكون فيه أسوة لبني آدم في جميع نواحي حياتهم وأطوارها وأحوالها.
وقد سبق لنا القول بأنه ليس في مئات الألوف مِن المصلحين والنبيين مَن يشهد لهم التاريخ إلَّا ثلاثة أو أربعة، ومع ذلك؛ فإن التاريخ لا يعرف مِن تفاصيل أحوالهم وشؤون حياتهم ودخائل سيرتهم إلَّا نَزْرًا يسيرًا وغير كامل، فكيف يتسَنَّى للإنسان أن يَتخذ مِن ذلك أسوة لحياته ذات النواحي المختلفة ؟

   أليس مِن المستغرب أن بوذا الَّذِي يبلغ عدد المنتسبين إليه رُبع سكان المعمورة، ولا يحفظ التاريخ مِن سيرته إلَّا عدة أقاصيص وحكايات؛ لو أننا نقدناها بمقاييس التاريخ ـ لنتخذ لأنفسنا قدوة من حياته وسيرته ـ ؛ لخرجنا مِن ذلك خاسرين ! إن إحدى تلك الأقاصيص تنبئنا بأنه وُلِد في زمان غير معلوم في واد مِن أودية (نيبال) في بيت راجة، فكان ذكيًّا، وذا طبيعة متوثبة، وله نفس متدبرة وقلب حساس، فلما بلغ أَشُدَّه وتزوج وصار أبًا؛ اتفق أن رأى جماعة من الفقراء والبؤساء؛ فأثَّر فيه منظرهم المؤلم، وأثار في نفسه كامن الرحمة والشفقة؛ فخرج مِن وطنه هائمًا علَى وجهه؛ حتى بلغ (بنـارس)، ثم (كـيـا) و(بايلي بـتــر) ـ وهي (بتنه) ـ ، ثم (راجكير) ـ وهي (بهار) ـ ، وتاه فيما بين ذلك من جبال وغابات ومدن وقرى، ولم يزال هائمًا علَى وجهه متجولًا بين هذِهِ البقاع النائية حتى بلغ في تجواله إلَى (كيا)؛ فتَجَلَّت له الحقيقة المحجوبة وهو تحت شجرة من أشجار بيبل؛ فرأى نور الحق ساطعًا؛ وادعى أنه أدرك سر الحقيقة؛ فخرج يدعو الناس إلَى دينه بين (بنارس) و(بهار)، ثم مضى لسبيله ! هذِهِ جملة ما نعلم من سيرة بوذا وحياته !

   وزردشت يُعَدّ واحدًا مِن الَّذِين أسّسوا بُنيان الدِّين وبدأوا بالدعوة إليه، وقد أسلفنا أن حياته مجهولة كذلك، ولا يتتبع أثرها إلَّا أهل القياس والاستنتاج مِن علماء التاريخ، وأنا لا أقول شيئًا مِن عند نفسي في سيرة زردشت؛ بل أعرض عليكم نبذة مما كُتِب عنه في «دائرة المعارف البريطانية» للقرن العشرين ـ وهي تُعَدّ مِن أوثق المصادر في التاريخ ـ :
«إن زردشت الَّذِي عرفناه مِن أبيات شعرية في (كاثا) غير زردشت الَّذِي نراه في (وستا) الجديدة؛ فالموصوف في المصدر الأول مُباين للمذكور في المصدر الثاني ومضاد له. وعلى كل؛ فإن الأسطورة الَّتِي  تشتمل علَى الحياة المستغربة (وقد نقل الكاتب شؤونًا في سيرته مِن كاثا) لا تدلنا علَى حياة زردشت دلالة واضحة، ولا تهدينا السبيل إلَى معرفته معرفة تاريخية؛ بسبب ما نجد مِن غموض لا نُدرك معناه».
وأخذ الكاتب يَسرد المصنفات الَّتِي وُضِعَت في هذا العصر عن حياة زردشت؛ وقال: «إن مولده لم يُعيَّن بعد، والشهادات علَى ذلك يناقض بعضها بعضًا، والعهد الَّذِي كان فيه زردشت مجهول كذلك؛ فالمؤرخون مِن اليونان اختلفوا فيه اختلافًا شديدًا، كما اختلف علماء عصرنا في تعيين عهده»، وانتهى كاتب ترجمته في «دائرة المعارف البريطانية» إلَى القول بأننا لا نعلم زمن زردشت البتة، ونجهله جهلًا تامًّا !

ومِن أقرب الأنبياء عهدًا بالإسلام عيسى ـ عليه السلام ـ ، الَّذِي يزيد عدد المنتسبين إليه ـ بحسب إحصاءات الأوربيين ـ علَى عدد المنتسبين إلَى الديانات الأخرى، وإن المرء ليستغرب حين يعلم أن شؤون حياته وأحوال معيشته أخفَى من غيره وأغمض، وقد أسدل الزمان عليها حجابًا أكثف مما نراه في حياة العظماء الآخرين مِن الرسل الَّذِي يُعَدُّون مِن أصحاب الأديان المشهورة. وإن أوروبا المسيحية قد حملها حافز البحث والكشف علَى أن تستثير بطون الصحاري، وقلل الجبال، وأطراف الصخور، والأطلال الدارسة، ومظان الآثار، ومجالات الحوادث الَّتِي مَرَّت عليها الأحقاب الطويلة؛ فكتب المستشرقون التاريخ القديم لبابل وأشور والعرب والشام ومصر وإفريقية والهند وتركستان، وأخذوا يُلائِمون بين الحوادث القديمة المجهولة الزمن، ويعرضونها علَى الناس واضحة نقية، منسَّقة مرتبطًا بعضها ببعض، وطفقوا يعثرون علَى الصفحات المفقودة من كتاب التاريخ القديم للبشر؛ إلَّا أنهم قد أعياهم البحث والفحص؛ فلم يجدوا الصفحات المفقودة عن حياة نبيهم ! وقد استفرغ العلامة رينان جهده؛ ولقي من العناء والنصب مبلغًا عظيمًا ليقف علَى حياة عيسى كاملة تامة؛ ومع ذلك؛ فإن شؤون عيسى ـ عليه السلام ـ وأحواله لا تزال سرًّا مكنونًا في ضمير الزمن لم يَبُح به لسانه بعد !

أين قضى عيسى ـ عليه السلام ـ الثلاثين ـ أو الخمس والعشرين سنة (علَى الأقل) ـ من حياته ؟ وفيمَ قضاها ؟ وبأي الأعمال شغل هذا الفراغ الواسع من عمره ؟ إن الدنيا لا تعلم عن ذلك شيئًا ولن تعلم. والسنوات الثلاث الأخيرة ماذا نجد فيها ؟ آيات ومعجزات معدودات، وبعض العِظات، ثم قيل إنه صُلِب؛ فانطوت صحيفة حياته.
2 ـ أن تكون جامعة؛ أي: محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها كاملة تامة جامعة:
يتسع مجال الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ليشمل كل جوانب الدين المختلفة وجميع مناحي الحياة المتنوعة، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، و(ما) من الأسماء الموصولة المفيدة للعموم فيجب الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به من العقائد والشعائر والشرائع،    

  - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، وأن ما جاء به يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته..."

أي أن الطوائف الإنسانية المتفرِّقة، والطبقات البشرية المختلفة تحتاج إلَى أمثلة كثيرة ومتنوعة تتخذها منهاجًا لحياتها الاجتماعية، وكذلك الأفراد في المجتمع البشري هم في حاجة إلَى مُثل عليا؛ يقتدون بها في مناحي حياتهم البيتيّة؛ لتتوثق الروابط بين الأفراد، وتحسُن العلاقات بين شتَّى الطوائف، في داخل الأسرة وخارجها. لذلك ينبغي أن تكون تلك المثل كلها واضحة في حياة الإنسان العظيم؛ الَّذِي يُتَّخَذ مثالًا في الحياة. وإذا صحَّت هذِهِ النظرة ـ وهي صحيحة ـ ؛ لم نجد في سالف الأيام قدوة واضح الحياة غير محمد خاتم النبيين ـ عليه وعليهم السلام ـ .

فيجب علَى كل متَّبع لدِين أن يتعرَّف هذِهِ الحقوق والفرائض والواجبات من سيرة نبيه، والأحوال الَّتِي كان عليها صاحب مِلّته، ثم يقتدِي بها، ويفرِّغ حياته في قالبها. وإذا نظرنا إلَى سير الأنبياء هذِهِ النظرة، وحاولنا معرفة حقوق الله وحقوق خَلْقه كاملة تامة من سيرتهم؛ لم نجد ذلك إلَّا في سيرة محمد ﷺ، المبعوث إلَى الناس كافَّة.

   - إن عيسى ـ عليه السلام ـ عاش عيشة المغلوبين المحكومين؛ فلا غرو إذَا لم نجد في حياته مثالًا من واجبات الحاكم الغالِب. ولم يكن له ـ عليه السلام ـ زوجة؛ لذلك لا نرَى في حياته مثالًا لما ينبغي أن يتبادله الزوج والزوجة من واجبات وحقوق، خصوصًا وأن الَّذِي بين الزوجين من الصِّلَة أوثق وأشدّ من الَّذِي بين الأولاد وآبائهم؛ كما جاء في سِفْر التَّكوين من التوراة.. أنّ هذِهِ الدنيا معظم سكانها يعيش عيشة الزواج والمناكحة؛ فليس له في حياة عيسى ـ عليه السلام ـ مثال.

وإن العالم الَّذِي يحتاج سكانه في حياتهم إلَى أسوة تامة ليعلموا كيف تكون الرابطة بين الزوج وزوجه، وبين الصديق وأصدقائه، والأب وبنيه، والمقاتل وأعدائه، والهُدنة بين المتحاربين وكيف تنعقد؛ لا يستطيع أن يجد له أسوة في حياة مَن لا يجد لهذه الأمور ذِكرًا في سيرته.
ولو أن الناس في أيامنا هذِهِ آثَروا التأسِّي بحياة عيسى ـ عليه السلام ـ ، وأرادوا أن يعيشوا كما عاش؛ لخربت الدنيا، واستحال عمرانها خرابًا يبابًا، ولأصبحت القُرَى مقابر تتردّد في أنحائها أصوات البُوم ! أما الحضارة وتقدّمها؛ فسرعان ما يعتريهما الزوال ويمحَى اسمهما، وأوربا المسيحية لن تبقى بعد ذلك يومًا واحدًا !

لأجل ذلك؛ لا ترى أمة مسلمة تبحث ـ في خارج دينها، وبمنأى عن سيرة نبيها ـ عن أصول وضوابط تقوِّم بها اعوجاجها، وتثقف منادها، وتصلح زيغها؛ لأنها في غِنى عما هو أجنبي عنها، وعندها في هدي سيرة نبيها ﷺ الميزان القويم والقسطاس المستقيم؛ الَّذِي تتبين به ما في العالم من خير وشر، وتميِّز به الحق من الباطل. وفي الحق؛ إن العالم كله لفي حاجة شديدة إلَى سيرة بشر كامل؛ تُتخَذ من حياته الأسوة العظمى، وليس في الدنيا إنسان كامل يعرف التاريخ سيرته علَى التفصيل كما يعرف تفاصيل حياة محمد ﷺ خاتم النبيين؛ فالناس كلهم في أَمَسِّ الحاجة إلَى أن يتخذوا من السيرة المحمدية منهاج حياتهم؛ ففيها الأسوة الطاهرة، وهي الحياة المثالية للناس جميعًا، صلى الله وسلم عليه.

لا تخلو الدنيا من رعية يرعَى أمورهم رئيس، ومن محكومين يحكم فيهم حاكم، ومن خصوم يقضي بينهم قاضٍ بالعدل؛ ليسود الأمان ويستتب السلام، وكذلك الأمم تحتاج إلَى أن يكون لها جنود يدافعون عن كيانها، وأن يكون علَى الجنود ضباط وقادة، وتجد فيهم الفقراء الَّذِين يعانون الشدة والبؤس، كما تجد فيهم الأغنياء من أهل التَّرَف والسَّرَف، وفيهم عباد الله يقومون بطاعته في جوف الليل، وزُهّاد تحرروا من مُتَع الدنيا وزخارفها، ومجاهدون في سبيل الله يقارعون الباطل ويقيمون الحق في الأرض، وكذلك ترى في الدنيا العائلين الَّذِي يكدحون لمن يعولونهم، وترى فيها لفيف الأصدقاء المتحابين، وطوائف التجار والمحترفين، وأصحاب المصانع والمعامل، وهكذا الدنيا لا تخلو من قادة الأمم وساسة الشعوب وزعماء الأحزاب. وعلى شتى الطوائف ومختلف الفرق قام نظام هذِهِ الدنيا، وكل منهم يحتاج في عمله إلَى حياة مثالية وأسوة كاملة يَقتدي بها ليكون سعيدًا في الحياة.

وأعظم من الأسوة في أعمال الإنسان الظاهرة الأسوة فيما يتعلق بخطرات القلوب، ومجالات الفكر، ونزعات العواطف؛ فنحن نشعر بين كل حين وآخر بنزعات وعواطف تخالج قلوبنا وأفكارنا: فنرضى ونَسخط، ونفرح ونحزن، وتعترينا السكينة والطمأنينة، أو القلق والضجر. وتترتب علَى هذِهِ الأحوال عواطف مختلفة ونوازع متعددة.

إذا كنتَ غنيًّا مثريًا؛ فاقتدِ بالرسول   عندما كان تاجرًا يسير بسِلَعه بين الحجاز والشام، وحين مَلَكَ خزائن البحرين. وإن كنتَ فقيرًا مُعْدمًا؛ فلتكن لك أسوة به وهو محصور في شِعْب أبي طالب، وحين قَدِم إلَى المدينة مهاجرًا إليها من وطنه وهو لا يحمل من حُطام الدُّنيا شيئًا. وإن كنتَ مَلِكًا؛ فاقتدِ بسُنَنه وأعماله حين مَلَكَ أمر العرب، وغلب علَى آفاقهم، ودان لطاعته عظماؤهم وذوو أحلامهم. وإن كنتَ رعية ضعيفًا؛ فلك في رسول الله أسوة حسنة أيام كان محكومًا بمكة في نظام المشركين. وإن كنتَ فاتحًا غالبًا؛ فلك مِن حياته نصيب أيام ظفره بعَدُوّه في بدر وحُنين ومكة. وإن كنتَ منهزمًا ـ لا قَدَّرَ اللهُ ذلك ـ ؛ فاعتبر به في يوم ِأُحُد وهو بين أصحابه القتلى ورفقائه المثخَّنين بالجراح. وإن كنتَ معلِّمًا؛ فانظر إليه وهو يعلِّم أصحابه في صُفَّة المسجد. وإن كنتَ تلميذًا متعلمًا؛ فتصور مقعده بين يدي الروح الأمين جاثيًا مسترشدًا. وإن كنتَ واعظًا ناصحًا ومرشدًا أمينًا؛ فاستمع إليه وهو يَعِظ الناس علَى أعواد المسجد النبوي. وإن أردتَ أن تقيم الحق وتصدع بالمعروف وأنت لا ناصر لك ولا معين؛ فانظر إليه وهو ضعيف بمكة لا ناصر ينصره ولا معين يعينه، ومع ذلك؛ فهو يدعو إلَى الحق ويُعلن به. وإن هزمتَ عدوَّك وخضدت شوكته وقهرت عناده؛ فظهر الحق علَى يدك وزهق الباطل واستتب لك الأمر؛ فانظر إلَى النبي ﷺ يوم دخل مكة وفتحها. وإن أردتَ أن تُصْلِح أمورك وتَقُوم علَى ضياعك؛ فانظر إليه ﷺ وقد ملك ضِياع بني النضير وخَيبر وفدَك؛ كيف دبر أمورها، وأصلح شؤونها، وفوَّضها إلَى مَن أحسن القيام عليها. وإن كنتَ يتيمًا؛ فانظر إلَى فلذة كبد آمنة وزوجها عبدالله وقد توفيا وابنهما صغير رضيع. وإن كنتَ صغير السِّنِّ؛ فانظر إلَى ذلك الوليد العظيم حين أرضعته مرضعته الحنون حليمة السعدية. وإن كنتَ شابًّا ناشئًا؛ فاقرأ سير راعي مكة. وإن كنتَ تاجرًا مسافرًا بالبضائع؛ فلاحظ شؤون سيد القافلة الَّتِي قصدت بَصْرى. وإن كنتَ قاضيًا أو حَكَمًا؛ فانظر إلَى الحَكَم الَّذِي قصد الكعبة قبل بزوغ الشمس ليضع الحجر الأسود في محله، وقد كاد رؤساء مكة يقتتلون، ثم ارجع البصر إليه مرة أخرى وهو في فناء مسجد المدينة يقضي بين الناس بالعدل؛ يستوي عنده منهم الفقير المعدَم والغني المثري. وإن كنتَ زوجًا؛ فاقرأ السيرة الطاهرة والحياة النزيهة لزوج خديجة وعائشة. وإن كنتَ أبا أولاد؛ فتعلم ما كان عليه والد فاطمة الزهراء وجدّ الحسن والحسين. وأيًّا مَن كنتَ، وفي أي شأن كان شأنك؛ فإنك مهما أصبحتَ أو أمسيتَ وعلى أي حال بتَّ أو أضحيتَ؛ فلك في حياة محمد ﷺ هداية حسنة وقدوة صالحة؛ تضيء لك بنورها دياجي الحياة، وينجلي لك بضوئها ظلام العَيش؛ فتصلح ما اضطرب من أمورك، وتثقف بهديه أودك، وتقوِّم بسُنّته عِوَجك. وإن السيرة الطيبة الجامعة لشتَّى الأمور هي مَلَاك الأخلاق، وجماع التعاليم لشعوب الأرض وللناس كافة في أطوار الحياة كلها، وأحوال الناس علَى اختلافها وتنوعها؛ فالسيرة المحمدية نور للمستنير، وهديها نبراس للمستهدي، وإرشادها ملجأ لكل مسترشد.

إننا نأخذ من النبي كل شيئ لأنه هو المعصوم :
فإذا أخذنا من غير المعصوم اعوجت حياتنا لأننا بيناها على أساس أعوج !

ذلك في حياة كل منا شخصية يتمنى أن يكونها، وشخصية يكره أن يكونها، وشخصية يكونها، فالشخصية التي تكونها هي أنت، والشخصية التي تتمنى أن تكونها هي طموحك وانتماؤك واتجاهك، قل لي أي شخصية تتمنى أن تكونها أقل لك من أنت.

الله أمرنا أن نأخذ عن النبي كل أقواله وكل أفعاله، إذاً: هو معصوم، ولو لم يكن معصوماً لكان الله قد أمرنا باتباع غير المعصوم، وهذا مستحيل، ولكن كما يقال: الشيء بالشيء يذكر، كما أننا نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بأقواله وأفعاله وإقراره وصفاته لا نعتقد العصمة لغيره، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية أن غير النبي e مهما يكن عالي القدر فليس بمعصوم، وهذه القاعدة مريحة جداً، أنت إذا تعاملت مع كل المؤمنين فأكبرت مؤمناً تألق نجمه، تقول في نفسك: هذا من أتباع النبي e، وإن رأيت زلة قدم آلمتك من أخيك, تقول: هذا من عدم عصمته، وتبقى تحبه، لذلك من الخطأ الكبير أن نعتقد العصمة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نعتقد العصمة لغير النبي هذا مزلق خطير .

3-  أن تكون عمليّة؛ أي: أن تكون الدعوة إلَى المبادئ والفضائل والواجبات بعمل الداعي وأخلاقه:

 وأن يكون كل ما دعا إليه بلسانه قد حقّقه بسيرته، وعَمِلَ به في حياته الشخصيّة والعائليّة والاجتماعيّة؛ فأصبحت أعماله مُثُلًا عُلْيا للناس يأتَسون بها.
إن الحياة المثالية لن تكون أسوة للناس ما لم تكن أعمال صاحبها ـ الَّذِي يؤسّس دينًا ويدعو الناس إليه ـ مثالًا وأنموذجًا لمن يدعو إليه، ولا يتطرّق الشك إلَى الناس بأن ما يدعو إليه هو مما يعمل به.

النبي هو التجسيد الحي للمبادئ التي دعا إليها :

    فالأسوة العملية الحسنة هي الحقّ متحرّكاً ومتمثّلاً في شخصية متكاملة، متحرّكة أمامك ﴿ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ فالنبيّ أسوة عمليّة حسنة بتزكيةٍ وشهادة ربّانية.

وقد ورد في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه:"كان خُلُقه القرآن"  ، أي أنّه جسّد القرآن الكريم عملياً في عمله وسلوكه حتّى أنّك إذا أردت أن ترى القرآن الكريم في قيمه ومفاهيمه وأخلاقه متجسّداً ومتحرّكاً أمامك تنظر إليه بعينيك فانظر إلى شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سلوكه وكلّ حركاته وسكناته، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة عمليّة حسنة في كلّ لفظ أو فعل أو موقف.

-       فهو صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في الكلام ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ فكلامه معصوم عن الخطأ والزلل، ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ .

-       وهو أسوة صلى الله عليه وآله وسلم في الموقف والعمل ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾.

-       وهو أسوة وحجّة حتّى في سكوته وتقريره، لذلك كانت العبارة الأصولية: "قول المعصوم وفعله وتقريره حجّة".

ففي السلم والحرب وفي الرخاء والبلاء، وفي السرّاء والضرّاء، بل وفي جميع شؤون الحياة كان النبيّ يتحرّك مع الناس ليعيش معهم كلّ المفارقات والمفاصل في الحياة والاختلافات والنزاعات ليبيّن لهم ميدانياً ومن قلب الواقعة والميدان، أين الحقّ من الباطل، وأين الصواب من الخطأ، وأين العلم من الجهل، وأين السداد من الاشتباه، يُعطي لكلّ واقعة حكمها، ولربما دفع أثماناً لوجوده في قلب الحدث، ولكن كان ذلك يصبّ في خانة التضحيات في سبيل الرسالة.

-         فهذا يُبيّن شدّة لصوق الأنبياء الكرام بالمرسَل إليهم وقربهم منهم.

·        بخلاف الفلاسفة والحكماء فإنّهم في الأعمّ الأغلب منظِّرون للحقائق التجريدية عن بُعد، ولم يلتحموا بالواقع المعاش للناس ليكونوا متحرّكين عملياً أمامهم لكي يؤثِّروا فيهم من الناحية التربوية، فلم يكونوا أسوة عملية مرأية لكلّ أحد، ولهذا كان الأنبياء مؤثّرين في الناس على صعيد التهذيب والتربية والتأديب والتزكية.

فالإنسان يتأثّر بعملٍ أو موقفٍ أمامه من أسوة عملية أكثر من تأثّره بسيلٍ من الكلمات، ولهذا يؤكّد القرآن الكريم على أن يكون الرسول من جنس المرسَل إليهم فيردّ إشكال من قال إنّ النبيّ ينبغي أن يكون مَلَكاً من الملائكة بقوله تعالى:﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ 16. فكيف يتأسّى البشر بغير البشر !!

فوائد الأسوة الحسنة أن الدعوة إلى أيِّ شيء لا تتحقق إلا بالأسوة الحسنة ، فالتوجيهات إذا فرغت من مضمونها انتهت الدعوة كلياً ، الفائدة العظمى أنك إذا أردت أن تحمل هذا الإنسان على تطبيق مبدئك ودعوتك وتوجيهاتك فلا بد من أن يرى نموذجاً .

لذلك أنا أرى أن قصة معاصرة فيها بطولة أبلغ من آلاف القصص القديمة ، لماذا ؟ لأن القصة كان أبطالها معاصرين لك ، هؤلاء عاشوا الظرف نفسه ، وتحملوا الضغوط نفسها ، وواجهتهم الصوارف نفسها ، وواجهتهم العقبات نفسها .
إذاً : المشكلة أن القصة في أدق تعريفاتها حقيقة مع البرهان عليها ، فإذا انتزعت قصة من مجتمعك ، لإنسان أخلاقي ، إنسان نزيه ، إنسان عفيف ، إنسان أمين ، فهذا الأمين في جو معين ، في جو ليس مَن حوله مثلَه مثلاً ، هو شاهد عليهم ، لذلك جعل الله في كل مجتمع أناساً يُعدُّون حجة على الآخرين ، فتجد القاضي نزيها ، والطبيب مخلصا لا يبتز أموال الناس ، والمحامي صادقا ، والحاكم عدلاً ، هؤلاء المطبقون لمبادئهم ، هؤلاء حجة على مَن سواهم .
فلذلك أكبر ثمار القدوة الحسنة أن الأهداف لا تتحقق إلا بالقدوة الحسنة . 

حاجة الناس إلى القدوة :
من التنويه إلى أن من خصائص النفس البشرية التقليد والمحاكاة ، وهذا لصالحها ، لأن الإنسان ربما لا يفكر ، أو ربما لا يستوعب ، أو رأى إنسان على وضع يعجبه ، يحب أن يقلِّده ، ففي أصل تركيب الإنسان رغبة في التقليد والمحاكاة .
فلذلك جعل الله هذه الخصيصة لصالح الإنسان، من أجل أن يستفيد من تفوق الآخرين ، فإذا قلَّدهم كان له في هذا التقليد تقدم عند الله عز وجل .
-  قال علماء النفس : في حياة كل منا شخصية نكونُها ، وهي نحن ، وشخصية نتمنى أن نكونها ، وشخصية نكره أن نكونها .
النقطة الدقيقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كلفه الله أن يبلِّغ ، ولكن الحقيقة أن قدوته أبلغ من تبليغه ، لأن الناس يتعلمون بعيونهم أكثر مما يتعلمون بآذانهم ، فكان عليه الصلاة والسلام قدوة حسنة . 

هل القدوة التاريخية وحدها تكفي أم لا بد من تجسيدها واقعا حيا :
    الحقيقة أنك إذا قرأت عن رجل في التاريخ عظيم ، أخلاقي ، شجاع ، كريم مصلح ، عالم تتأثر ، لكن   إن عاصرت إنساناً مثلاً أعلى في الأخلاق ، يعيش ظروفك ، يعيش الضغوط ، يعيش الإغراءات ، يعيش الصوارف ، يعيش العقبات ، يعيش المعطيات  التي تعرفها وتحيط بك يزداد اعجابك به وتأثرك بسلوكه...
   - إن المسلمين اليوم بحاجة إلى مسلم متحرك ، لا إلى إسلام في الكتب ، مسلم متحرك ، له تأثير يفوق حد الخيال ..
إن الناس تكفر بالكلمة المجردة التي لا دليل من الواقع يصدقها :

نحن بحاجة إلى قرآن يمشي، ونحن بحاجة إلى مسلم يمشي، الكلام النظري تأثيره ضعيف، لماذا؟ لأن الناس كفروا بالكلمة، لماذا كفر الناس بالكلمة؟ لأن كل الممارسات التي يمارسها الناس تتناقض مع كلامهم، تأتي إلى بلد، وتتفنن في إيقاع الأذى، وهدم البيوت، وقتل الأبرياء, وتقول: أنا جئت من أجل الحرية، من أجل أن تنعموا بالحرية، هذا الكلام مع هذه الممارسات يحمل الناس على أن يكفروا بالكلمة كفرًا كاملاً، نحن الآن في مشكلة، الناس كفروا بالكلمة، ولا يمكن أن تستعيد الكلمة قدسيتها إلا بالتطبيق، الأنبياء بماذا جاؤوا؟ هل جاؤوا بالصواريخ, هل جاؤوا بالطائرات؟ هل جاؤوا بحاملات الطائرات؟ هل جاؤوا بالغواصات؟ هل جاؤوا بالأقمار الصناعية؟ جاؤوا بالكلم.

  - قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي  السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ ( سورة إبراهيم الآية : 24-25 )
الكلمة الطيبة تفعل فعل السحر في الناس، لكن الناس اليوم كفروا بالكلمة، لأن كل الذي يقال معه ممارسات تتناقض معه، مجلس يأمر بلدًا بعيدًا أن يطبق الديمقراطية، جيد، لكنه هو يمارس القهر والقمع عن طريق حق الفيتو، أو حق النقض، المجلس قمعي، وأمره ديمقراطي، كلام مضحك، لذلك كفر الناس بالكلمة، لا يمكن أن نعيد للكلمة مكانتها إلا بالتطبيق،

  - لذلك قال عليه الصلاة والسلام: " اِسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ " . ( أخرجه السيوطي الجامع الصغير عن سمرة)

عمل أعداء الامة لتغيير محل الأسوة :
نقول: ولأهميّة الأسوة في الحياة وشدّة تأثيرها على المجتمع والحياة فإنّ أعداء الإسلام قد عمدوا إلى استبدال الأسوة الحسنة بالأسوة السيّئة وابتكروا أشياء توافق الأهواء وروّجوا لها على أنّها نماذج الكمال والجمال، وبذلوا قصارى الجهد ليُقنعوا أمّتنا بذلك من خلال أساليب الدعاية المختلفة، وهذا طبعاً يجعل فرص الاشتباه في اختيار الأسوة الحسنة كبيرة، وبالفعل نجد الكثير من شباب أمّتنا الإسلامية الّتي هي خير أمّة أخرجت للناس تسير نحو الأسوة السيّئة.

وهذا الاختيار الخاطئ للأسوة تعمل أجهزةٌ منظّمة جهنميّة لتسويقه بين شعوبنا الإسلامية وبثّه فيهم وخاصة بين شبابهم الّذين يمثّلون عصب الأمّة وقوّتها وطاقتها، وإظهاره بمظاهر المثل العليا، بعناوين متعدِّدة كالجمال والأناقة، والتجدُّد باتّباع الموديلات الّتي لا تقف عند حدّ، والبطولات الوهمية، ويقيمون المسابقات على مدار أيّام السنة بعناوين مختلفة رياضية وغيرها، فيُصبح البطل هو من يُسدِّد الكرة لتدخل في المرمى لا من يدافع عن كرامته وشرفه، وعزّة أمّته، وقيمها، وذلك لإلهاء شعوبنا عن القضايا الكبرى والوصول بذلك إلى استعبادهم بعد استنزاف مقدّراتهم الّتي مَنَّ الله بها عليهم.

وقد نجح أعداء الدِّين والإنسانية في تسويق هذه الأسوة السيّئة الضالّة المضِلّة كأمور مهمّة تجري المنافسة على حيازتها ويكون الفرد اللامع فيها هو من يُنظر إليه كأنموذج تنشدّ إليه الأنظار وترمقه بطرفها متمنية بشوق ولهفة الوصول إلى ما وصل ونيل ما نال، وتقف الناس إجلالاً له وتتجمهر عندما يحضر، ويأتون إليه بأشياء ليتبرّكوا من تواقيعه عليها، وتُجعل صوره على المنتجات الاستهلاكية كالألبسة وشبهها وعلى الدفاتر المدرسية والكتب، ويروِّجون له حتّى وأنت تسير في سيارتك تراه في الإعلانات والملصقات..

والكلام في ذلك يطول، وما كان مُعاشاً كفتنا رؤيته بالعين مؤونة وصفه والحديث عن تفاصيله..

لا نجاة إلا باتباع نهج المصطفى عليه الصلاة والسلام :

-  وقد ضمن الله تعالى الهداية لمطيعيه والمتبعين له صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 45].

      فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى... قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ : مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى..[1]
  -  في الحديث : مثلي ومثلكم كمثل رجل أوْقَدَ ناراً، فَجَعَلَ الجَنَادِبُ والفَرَاشُ يَقَعْنَ فيها، وهُوَ يَذُبُّهُنَّ عنها، وأنا آخِذٌ بِحُجَزِكُم عن النار، وأنتم تَفَلَّتُونَ مِن يَدِي)) أخرجه مسلم في الصحيح .

 النبي يمنعنا عن دخول النار؛ بسنته, توجيهاته, وأوامره, ونواهيه, والناس يقبلون على الشهوات, ليعاقبوا في الدنيا والآخرة...
حرص الصحابة على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم:

نموذج من اتباع الصحابة للسنة :
·        ومن ذلك :
o       اراقتهم للخمر عند سماع تحريمها
o        خلعهم للنعال عند علمهم بفعل النبي لذلك في الصلاة .

   كان عبد الله بن عمر يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله ، حتى في الأعمال الحياتية التي لا دخل لها في التشريع ولم نؤمر باتباعها.
-    فعن نافع أن ابن عمر كان يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي في كل مكان صلى فيه ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس .
  قال مجاهد : كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر فمر بمكان فحاد عنه ، فسئل لم فعلت ذلك ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ففعلته .
-     وينقل إلينا نافع وصفا لحاله وهو يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: لو نظرت إلى ابن عمر إذ اتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: هذا مجنون.
-  وعبد الله بن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل فقال ابن له والله لا نأذن لهن فيتخذنه دغلا والله لا نأذن لهن قال فسبه وغضب وقال أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذنوا لهن وتقول لا نأذن لهن

   -  قال الجنيد بن محمد: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الله عز وجل يقول: (وعزتي وجلالي ، لو أتوني من كل طريق ، واستفتحوا من كل باب ، لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك يا محمد.
-    حديث عَلِي رضي الله عنه: أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى فِي يَدِهَا. وَأَتَى النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم سَبْيٌ. فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ. وَلَقِيَتْ عَائِشَةَ. فَأَخْبَرَتْهَا. فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم ، أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ إِلَيْهَا. فَجَاءَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم إِلَيْنَا. وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا. فَذَهَبْنَا نَقُومُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : «عَلَى مَكَانِكُمَا» فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ عَلَى صَدْرِي. ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ أُعَلِّمُكُمَا خَيْراً مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، أَنْ تُكَبِّرَا اللّهَ أَرْبَعاً وَثَلاَثِينَ. وَتُسَبِّحَاهُ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ. وَتَحْمَدَاهُ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ. فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ». رواه البخاري ومسلم .
     وفي رواية : قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ.
       *    ومعلومٌ أن ليلة صفين ليلة دارت فيها معركة كان عليٌّ رضي الله عنه قائداً فيها ومع ذلك لم ينشغل عن هذه السنة .
   -  قال النووي – رحمه الله- معلفا على بعض الأحاديث: " وفيه ما كان الصحابة عليه من الرغبة في الطاعات حين يبلغهم , والتأسف على ما يفوتهم منها وإن كانوا لا يعلمون عظم موقعه "
  -   حديث سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ قَرِيباً لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ. قَالَ فَنَهَاهُ وَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللّهِ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ وَقَالَ: «إنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيْداً وَلاَ تَنْكَأُ عَدُوّاً. وَلكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ» قَالَ فَعَادَ فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَخْذِفُ لاَ أُكَلِّمُكَ أَبَداً. رواه البخاري ومسلم.
  • والخذف هو رمي الإنسان بحصاة أو نواة ونحوهما يجعلها بين أصبعيه السبابتين أو الإبهام والسبابة.
والنماذج في حفاظهم على السنة وتعظيمها كثيرة ولا عجب فقد كانوا أحرص الناس على الخير , وهكذا تأثر بهم مَن بعدهم من السلف والقرون المفضلة , وأصبح التأريخ يسطر لنا ممن تبع أولئك الرجال في التمسك بالسنة نماذج تشجع النفس على الحرص على السنة واقتفائها ...

وكذلك الانتهاء عما نهى عنه وزجر :

فكما أن طاعته صلى الله عليه وسلم في كل الأمور واجبة ، فإنه يتبعه حتما وجوب الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزجر .
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أكلت الحمر .. فسكت ، ثم أتاه الثانية فقال : أكلت الحمر .. فسكت ، ثم أتاه الثالثة ، فقال : « أفنيت الحمر » .
فأمر مناديا فنادى في الناس : ( إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية) ، فأكفيت القدور ، وإنها لتفور باللحم .

    - و عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجلٍ ، فنزعهُ فطرحهُ وقال:" يعمدُ أحدكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلها في يدهّ" فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خذ خاتمك ؛ انتفع به قال: لا والله لا آخذهُ أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم [298]
إن هؤلاء الأبرار لم يفكروا في حيلة ، ولم يبحثوا عن فرصة أو استثناء ، ولم يجادلوا ويقولوا : إنما حرم رسول الله ما يذبح بعد ذلك لا ما تفور به القدور ، لكنهم انطاعوا للأمر ، وهكذا يكون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

نماذج من حرص السلف على السنة :
·         لقد كان السلف الصالح شديدي الحرص على تتبع سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم
 -   قال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول : ما بلغني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حديث قط إلا عملت به ولو مرة .  السير 7/242
-    روى مسلم في صحيحه حديث النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ. قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ حَبِيبَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ». قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللّهِ .
وَقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ.
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ.

 - وهذا الإمام أحمد: رحمه الله وضع في كتابه المسند فوق أربعين ألف حديث، لكنه عمل بها كلها، قال: ما تركت حديثاً إلا عملت به، ولما قرأ " أن النبي صلي الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً " قال: احتجمت وأعطيت الحجام ديناراً، والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، لكن لأجل تطبيق الحديث بذلها الإمام أحمد رحمه الله تعالى
والنماذج في هذا الصدد كثيرة , نسأل الله أن يحيي سنة نبينا صلي الله عليه وسلم في قلوبنا لتنال من الفضائل والمِنَحِ والقُرْبِ من الله جل وعلا ما استودعه في سنة نبيه صلي الله عليه وسلم فباتباع السنة ينال الإنسان ذلك ,
ولذا يقول ابن القيم ( في المدارج ) " قال ابن عطاء : من ألزم نفسه آداب السنة نوَّر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه"
وقال ابن القيم -رحمه الله- ( في اجتماع الجيوش ) : " ترى صاحب اتباع الأمر والسنة قد كُسي من الرَوح والنور ومايتبعهما من الحلاوة والمهابة والجلالة والقبول ما قد حُرِمه غيره كما قال الحسن: " إن المؤمن من رُزق حلاوةً ومهابة "
 -  قال أحمد بن أبي الحـواري -رحمه الله-: " من عمـل عملاً بلا إتباع سنة فباطل عمله "
قال الامام الاوزاعي -رحمه الله- '' اصبرنفسك على السنة و قف حيث وقف القوم و قل بما قالوا و كف عما كفوا واسلك سبيل سلفك الصالح فانه يسعك ماوسعهم'''
o        أما واقعنا اليوم :
ما يشهده واقعنا من التفريط في سنة النبي صلي الله تعالي عليه وعلي اخوانه واله وسلم وامتثالها بحجة أنها مما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها , ولكن الرعيل الاول ( الصحب الكرام) كانوا لايفرقون في الأوامر بين الواجبات والمستحبات من حيث السؤال والتطبيق , والعجب ممن يعرف فضائل عديدة وعظيمة في سنن كثيرة علمها ولم يعمل بها ولو لمرة واحدة ! ويزداد عجبي حينما يُرى من تظهر عليه مظاهر الصلاح والاستقامة وحب الخير ويُرى مفرطاً في كثير من السنن بل جُلَّها !! فلا تجد سنة النبي صلي الله تعالي عليه وعلي اخوانه واله وسلم ظاهرة عليه في سمته وأخلاقه وتعامله وعبادته , بل ربما كان هذا شأن بعض مَنْ طَلَبَ العلم وحَرِصَ عليه , ثم تراه متراجعاً في عمله وحرصه على السنة مع معرفته بكثير من المسائل العلمية والسنن النبوية ...
لا تتم الأسوة بالنبي إلا بمعرفة سيرته
الرسول صلى الله عليه وسلم كان بين أصحابه أسوة لِمَا رأوه من حاله ، أما نحن فنقل إلينا الخبر الصحيح .

لذلك لا بد من قراءة سيرة النبي حتى نتمكن أن نعرف مواقفه ، وحياته في بيته ، مع أصحابه ، في حله وترحاله ، في سلمه وحربه ، حتى يطبق قوله تعالى . ﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ سورة هود الآية                                   
فإذا كان قلب سيد الأنبياء يزداد ثبوتاً بسماع قصة نبي دونه، فلأن تزداد قلوبنا إيماناً ويقيناً بمساع قصة سيد الأنبياء، هذا دليل .

·        وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ كيف نأتمر بما أمر؟ وكيف ننتهي عما عنه نهى وزجر إن لم نعرف ما الذي أمر, وما الذي زجر؟

كيف يكون النبي عليه الصلاة والسلام أسوة لنا، أي قدوة لنا، إن لم نعرف ماذا فعل في بيته؟ وكيف عامل زوجته؟ وكيف عامل أصحابه؟ وكيف كان في السلم؟ وكيف كان في الحرب؟ إذاً: معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية فرض عين على مسلم.
فالسيرة النبوية المطهرة منهج فيما ينبغي أن نفعل، وما ينبغي ألا نفعل.

السنة بدون فقه قد تكون مصدرا للوبال والتفرقة.




[1] = رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

0 comentarios:

Publicar un comentario