domingo, 4 de septiembre de 2016

ضوابط فهم السنة

0 comentarios

تعرضت السنة قديما وحديثا لعدة هجومات وزوابع كانت تتخذ صورا وأشكالا مختلفة، تارة باختلاق الأحاديث ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأهداف معينة وتارة بالطعن في حجية السنة النبوية بدعوى الاكتفاء بالقرآن الكريم أو بدعوى التناقض والتضاد الحاصل بين الأحاديث وتارة بالطعن في رواتها وغمزهم بكثرة الرواية على حساب الفهم أو بإنكار عدالتهم بل وصحبتهم، أو باتهامهم بالمداهنة واختلاق الأحاديث لإرضاء الحكام!

ولما كان الله عز وجل قد وعد بحفظ كتابه الكريم ، ولما كانت السنة النبوية تقوم من القرآن الكريم مقام المبين للمبين، فإنه جل وعلا قيض في كل عصر من يذب عن عرين السنة ويحمي بيضتها وينفي عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين[1].
·        وفي هذا العصر واجهت السنةُ النبوية مشكلتين:
  
      أولاهما : الطعن في حجية السنة بدعوى تأخر تدوينها،أو غمز رواتها ،أو بدعوى معارضة القرآن الكريم ،أو بدعوى الاكتفاء بما جاء في القرآن الكريم.. أو ما إلى ذلك من الدعاوى المتهافتة.

     والثانية: سوء فهم السنة، لا أقول من طرف خصوم الإسلام فحسب، بل وأيضا من طرف قطاع عريض من أبناء الأمة  الإسلامية الذين لم يتسلحوا بما يكفي من العلم للكلام في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقد يقع الواحد منهم على الحديث الواحد أو الحديثين في ديوان من دواوين السنة ويبني عليه حكما،ويطلع على الناس في جرأة لا يحسد عليها: هذا حرام، وهذا لا يجوز في دين الله عز وجل..فيضيق على الناس واسعا، ويجعل في الدين حرجا، ويثير بلبلة وفوضى ما أغنى المسلمين عنها.وقد يكون الحديث الذي اعتمده منسوخا ،أو مؤولا، أو معلا ،أو عاما وله مخصص، أو مطلقا وله مقيد ،أو واردا على سبب خاص.. أو ما إلى ذلك من الاعتبارات، التي أصل لها علماء الإسلام رحمهم الله تعالى لحسن فهم السنة النبوية، ودرءا لما قد يظهر فيها من تضاد وتعارض.

وبعض هؤلاء أعرض عن مذاهب الفقهاء وألقاها وراءه ظهريا،بدعوى الاكتفاء بما نص عليه الحديث، وما درى أن الحديث والفقه صنوان متلازمان، لا يستغني أحدهما عن الآخر ، فلا سنة بغير فقه، كما أنه لا فقه بغير سنة.ومثل هؤلاء، أولئك الذين نادوا بالإعراض عن أقوال المفسرين بدعوى أنها فهوم بشرية ،وقالوا ننظر في القرآن مباشرة، فضلوا وأضلوا.
محمد الغزالي وضجة كتابه :
  -   وقد أثار كتاب الشيخ محمد الغزالي (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهــــل الحديث) ضجة كبرى ،بسبب ما ضمنه من آراء واجتهادات قد يوافق على بعضها وقد لا يوافق على البعض الآخر، لكن مراده أن يبين ضرورة اعتماد القرآن الكريم في فهم السنة النبوية ،وأن لا سنة بغير فقه، وأن أحدهما لا يستغني عن الآخر وأنه ليس من العلم في شيء إصدار حكم في  مسألة ما اعتمادا على حديث أو حديثين وغض الطرف عن الأحاديث الأخرى في الموضوع،
 - يقول في ذلك: (والفقهاء المحققون إذا أرادوا بحث قضية ما ، جمعوا كل ما جاء في شأنها من الكتاب والسنة، وحاكموا المظنون إلى المقطوع، وأحسنوا التنسيق بين شتى الأدلة. أما اختطاف الحكم من حديث عابر والإعراض عما ورد في الموضوع من آثار أخرى فليس عمل العلماء.وقد كان الفقهاء على امتداد تاريخنا العلمي هم القادة الموثقين للأمة الذين أسلمت لهم زمامها عن رضا وطمأنينة ، وقنع أهل الحديث بتقديم ما يتناقلون من آثار كما تقدم مواد البناء للمهندس الذي يـبني الدار ويرفع الشرفات. والواقع أن كلا الفريقين يحتاج إلى الآخر ، فلا فقه بلا سنة ولا سنة بلا فقه، وعظمة الإسلام تتم بهذا التعاون)[2].
·        وبعد ذلك كتب الدكتور يوسف القرضاوي كتابه ( كيف نتعامل مع السنة النبوية، معالم وضوابط)[3] ذكر فيه ثمانية ضوابط من شأنها أن تعين المسلم على فهم السنة النبوية فهما صحيحا،وجاء كتابه أدق في منهجه من كتاب شيخه الغزالي.
جهود المحدثين في فهم السنة النبوية
لم تقتصر جهود المحدثين على توثيق المرويات وبيان حال الرواة جرحا وتعديلا بل بذلوا أيضا جهودا كبيرة في فهم هذه المرويات ،ودرء ما قد يكون بينها من تعارض بالجمع بينها ما أمكن أو الترجيح بينها بأحد المرجحات .

     أ- علم مختلف الحديث : وهو علم يبحث عن الأحاديث التي ظاهرها التعارض من حيث إمكان الجمع بينها، إما بحمل المطلق على المقيد، أو بتخصيص العام..أو غير ذلك من أوجه الجمع، أو الترجيح بينهما إذا تعذر الجمع .ويسمى أيضا علم تلفيق الحديث أو علم مشكل الحديث.قال السيوطي: (هذا فن من أهم الأنواع ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرا فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما فيعمل به دون الآخر،وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه والأصوليون الغواصون على المعاني الدقيقة)[4].

  *   وللعلماء فيه مصنفات من أشهرها: (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة (ت276هـ) و(مشكل الآثار) للطحاوي (ت321هـ).

 -       روي عن الزهري أنه قال : (أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ الحديث  من منسوخه)[5]. ويعرف النسخ بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بقول الصحابي، أو بمعرفة التاريخ
ب- علم ناسخ الحديث ومنسوخه:  وهو علم يبحث عن الأحاديث المتعارضة التي لا يمكن التوفيق بينها فيحكم على المتقدم منها بأنه منسوخ وعلى المتأخر منها بأنه ناسخ.

والحقيقة أن دعوى النسخ في الحديث أضيق مساحة من دعوى النسخ في القرآن , مع أن الأمر كان يجب أن يكون بالعكس , إذ الأصل في القرآن أن يكون للعموم والخلود , أما السنة فمنها ما يعالج قضايا جزئية وأحوالاً مؤقته , بحكم إمامته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأمة , وتدبيره لأمورها اليومية.

ج- علم أسباب ورود الحديث: وهو علم يهتم بتتبع الأسباب التي من أجلها ورد الحديث ،والأحوال والقرائن التي احتفت بذلك
د- علم غريب الحديث: وهو علم يهتم بشرح الألفاظ الغريبة الواقعة في متون الأحاديث.
جمع الروايات في الموضوع الواحد:
وإذا كان القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، ويحمل بعضه على بعض حتى يصح إدراك معانيه ، ويحسن فهم مراميه[6] ، فكذلك الحديث النبوي ، بل الأمر فيه أولى وآكد، لكثرة طرقه، واختلاف رواياته.وهذا المعنى هو الذي عبر عنه الإمام أحمد بقوله: (الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه ، والحديث يفسر بعضه بعضا)[7].
·   والناظر في صنيع  عدد من علماء الأمة يجده جاريا على هذا المهيع في النظر الكلي إلى الأحاديث بدل النظر الجزئي الذي غالبا ما تزل فيه الأقدام وتطيش الأفهام،ومؤلفاتهم في الحديث والفقه والأصول طافحة بأمثلة كثيرة في هذا الباب:
        أ) عند المحدثين:
   معلوم أن أحد مناهج التصنيف عند المحدثين هو التصنيف على الأبواب الفقهية، أي جمع الأحاديث الواردة في باب معين كالطهارة مثلا أو الإيمان،كما هو الحال مع أصحاب الكتب الستة وغيرهم.

·   ويبدو هذا المنهج جليا عند الإمام مسلم في صحيحه، حيث يجمع في الباب الأحاديث المتعلقة به على اختلاف ألفاظها وطرقها.ومن شأن هذا التصنيف الموضوعي أن يعين الفقيه على حسن فهم الحديث ، والسداد في استنباط الحكم.بخلاف صنيع البخاري مثلا، فإنه يعسر معه ذلك.ولهذا فضل المغاربة صحيح مسلم،لحسن ترتيبه، وسهولة تناوله.

وذلك واضح في تراجمه حيث يسوق الحديث ثم يسوق عقبه حديثا آخر أو عدة أحاديث تقيد مطلقه أو تخصص عامه .. ويعتبر أن التعارض الذي يتوهمه البعض بين الأحاديث ناشئ عن عدم إحكام صنعة الحديث.

     ب) عند الفقهاء:
وعلى هذا المنهج الكلي في النظر إلى الأحاديث سار فقهاء المحدثين ، وبنوا آراءهم وترجيحاتهم وردودهم الفقهية،
  -     كابن عبد البر في التمهيد
  -     وابن القيم في زاد المعاد
  -    وابن حجر في فتح الباري ، الذي قطع شوطا كبيرا في ذلك،وتقصى روايات الحديث الواحد في دواوين السنة على اختلاف أنواعها، وبنى على ذلك أحكاما واستنبط فوائد مهمة، لولا أنه شان صنيعه هذا باعتماد روايات ضعيفة في بعض الأحيان[8]
أمثـلة لتطبيقات هذه القاعدة:
ما جاء مطلقا في بعض الأحاديث وقيدته أحاديث أخر (أحاديث إسبال الإزار).
1.     الاحاديث العامة :
-   ومثاله أحاديث إسبال الإزار ،منها حديث أبي ذر مرفوعا: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة : المنان الذي لا يعطي شيئا إلا مَنَّه، والمنَفِّق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره)[9]
  -   وفي حديث أبي هريرة مرفوعا:  (ما أسفل من الكعبين مــن الإزار ففي النار)[10]
 وفي رواية النسائي : (ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار)[11].
فظاهر هذه الأحاديث يفيد أن من أسبل إزاره يلحقه هذا الوعيد الشديد، لكن استحضار الروايات الأخرى في الموضوع يفيد أن هذا الوعيد ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بمن فعل ذلك خيلاء وكبرا، وثمة نصوص تشهد لذلك:
2.     الأحاديث المقيدة :
    - منها حديث عبد الله بن عمر مرفوعا: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر: يارسول الله ، إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن   أتعاهد  ذلك منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لست ممن يصنعه خيلاء)[12].
   - ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا: ( لا  ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا)[13].
   - ومنها حديث ابن عمر مرفوعا: (من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة)[14].

*    وهذا المعنى هو الذي نص عليه علماء الإسلام بعد النظر في مجموع الأحاديث:

    *   قال ابن عبد البر: (هذا الحديث[15] يدل على  أن من جر إزاره من غير خيلاء ولا بطر أنه لا يلحقه الوعيد المذكور،غير أن جر الإزار والقميص وسائر الثياب مذموم على كل حال وأما المستكبر الذي يجر ثوبه فهو الذي ورد فيه ذلك الوعيد الشديد )[16]
    *   وقال ابن حبان : (الزجر عن إسبال الإزار زجر حتم لعلة معلومة وهي الخيلاء، فمتى عدمت الخيلاء، لم يكن بإسبال الإزار بأس)[17].

    *   وقال القاضي عياض : ( ... وتخصيص جره على وجه الخيلاء يدل على أن من جره لغير ذلك فليس بداخل تحت الوعيد، وقد رخص في ذلك النبي  صلى الله عليه وسلم  لأبى بكر الصديق رضى الله عنه وقال : (لست منهم) إذ كان جره إياه لغير الخيلاء، بل لأنه كان لا يثبت على عاتقه)[18].
    *   وقد أفاض ابن حجر رحمه الله في شرح هذه الأحاديث، والجمع بينها ، وبيان المراد منها، ومن جملة ما قال في ذلك : (في هذه الأحاديث أن إسبال الإزار   للخيلاء  كبيرة وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضا، ولكن استدل بالتقيـيد في هذه الأحاديث بالخيلاء عن أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد هنا فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء)[19].

 وهذا المعنى هو الذي رجحه الدكتور القرضاوي مستشهدا بالنصوص السابقة، وزاد فعلله من وجهة مقاصدية باعتبار أن الوعيد الذي تضمنته الأحاديث وعيد شديد ، يدل على أن عملهم من كبائر الذنوب ، وهذا إنما يكون في ما يمس الضروريات، أما مجرد تقصير إزار أو ثوب فهو داخل في باب التحسينيات.وأما إسباله بغير قصد سيء فهو أليق بوادي المكروهات التنزيهية. والذي يقاومه الإسلام هاهنا هو الكبر والخيلاء وغيرها من الآفات التي تستـتر وراء السلوك الظاهري للإنسان[20].

ما جاء مجملا في بعض الأحاديث وبينته أحاديث أخر(أحاديث ذم الزراعة):
ومن هذا القبيل أيضا بعض الأحاديث التي يوهم ظاهرها ذم الزراعة :

    -  مثل حديث أبي  أمامة الباهلي قال ،ورأى سِكة وشيئا من آلة الحرث ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول : ( لا يدخل هذا   بيت قوم  إلا أدخله الله الذل)[21].  فظاهر هذا الحديث أن الإسلام يكره الزراعة والحرث، واستند إليه بعض المستشرقين الألمان مدعيا أن الإسلام يحذر أهله من تعاطي أسباب استثمار الأرض![22].
      * ولو كلف نفسه النظر في ترجمة البخاري لهذا الحديث لما تجرأ على مثل هذه الدعوى الباطلة، قال البخاري: (باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به).
·       بيان المجمل :
ثم إنه قد وردت أحاديث أخر تبين المراد من حديث أبي أمامة السابق الذكر،وأنه ليس على إطلاقه،

    -  منها حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا تبايعتم  بالعـِينَة  وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)[23].وهذا محمول على الاشتغال بالزرع في الزمن الذي يتعين فيه الجهاد في سبـيل الله تعالى[24].
           * وحمل الداودي حديث أبي أمامة على من كان قريبا من العدو، فإنه إذا اشتغل بالحرث لا يشتغل بالفروسية فيتأسد عليه العدو[25]، وهذا أبشع مظاهر الذل.
أما إذا انتفت هذه المحذورات، فالأصل هو الترغيب في الزراعة كما دلت على ذلك الأحاديث السابقة[26].

*     ثم إن قد وردت عدة نصوص صحيحة وصريحة في الحث على الزراعة، و غرس الأرض وإحياءها، كحديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)[27]
ما جاء عاما في بعض الأحاديث وبينت أحاديث أخر أنه ليس على عمومه
1       . الأحاديث التي توهم أن آخر الزمان على العموم يكون شرا من أوله:
  - ومثاله حديث الزبير بن عدي قال: (أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال : اصبروا ،فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم)[28].

·   وظاهر هذا الحديث لو أخذ على انفراده يفيد أن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، وأن الخير في نقص وإدبار، وأن الشر في ازدياد وإقبال.

لكن الحديث ليس على عمومه، بدليل أنه قد وردت أحاديث أخرى تبشر بانتصار الإسلام، وعلو رايته، وغلبة كلمته، كأحاديث المهدي ونزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان.
* وهذا المعنى أشار إليه ابن حبان عندما خرج الحديث في صحيحه، فقد ترجم له بقوله:  ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة الحديث أن آخر الزمان على العموم يكون شرا من أوله ،ثم ترجم بعده بقوله: ذكر الخبر المصرح بأن خبر أنس بن مالك لم يرد بعموم خطابه على الأحوال كلها، وذكر فيه حديثين :
-  حديث  أبى هريرة قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: (لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة لملك فيها رجل من أهل بيت النبي  صلى الله عليه وسلم).
    -  وحديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: ( لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة لملك فيها رجل من أهل بيتي اسمه اسمي)[29].

*     ولعل أوجه التفاسير لهذا الحديث، وأوفقها للواقع التاريخي للأمة الإسلامية
  
 -     ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر حيث قال : (ويحتمل أن يكون المراد  بالأزمنة  ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده ويكون المراد   بالأزمنة  المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال وأما زمن عيسى عليه السلام فله حكم مستأنف والله أعلم.
2       أحاديث النهي عن نعي الميت:
-  مثل حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا : (إياكم والنعي فإن النعي  من عمل الجاهلية)[30].
-  وحديث حذيفة بن اليمان قال : (إذا مت فلا تؤذنوا بي ،فإني أخاف أن يكون نعيا، وإني سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ينهى عن النعي )[31].

*     فظاهر هذه الأحاديث أن النعي منهي عنه بإطلاق، وليس الأمر كذلك إذا نظرنا في مجموع الروايات   :
  * خاصة ما ورد في صحيح البخاري وبوب عليه بقوله: (باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه) .


      -  وذكر فيه حديثين: حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه ،خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا) .

      -  وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (قال النبي  صلى الله عليه وسلم : أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، وإن عيني رسول الله  صلى الله عليه وسلم لتذرفان ، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له)[32].

 *            وقال ابن المرابط : مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله لكن في تلك المفسدة مصالح جمة لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره والصلاة عليه والدعاء له والاستغفار وتنفيذ وصاياه وما يترتب على ذلك من الأحكام)[33].

*            ولذا قال ابن العربي : (يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا  سنة، الثانية:دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكره، الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك، فهذا يحرم)[34].

3.    أَحَادِيثُ زِيَارَةِ النِّسَاءِ القُبُورَ:

 -    ومثل ذلك الحديث أو الأحاديث التي تزجر النساء عن زيارة المقابر, مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَوَّارَاتِ القُبُورِ» [35]
وفي مقابل هذه الأحاديث أحاديث أخرى يفهم منها الإذن بزيارتها للنساء كالرجال.

 -      منها: في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُنْتُ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا»  «زُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ بِالمَوْتِ»
فيدخل النساء تحت هذا الإذن العام بالزيارة.

  ومنها: ما رواه مسلم والنسائي وأحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ (تعني: إذا زرت القبور) قَالَ: «قُولِي: السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ».

·          ومع أن هذه الأحاديث الدالة على الإذن أصح وأكثر من الأحاديث الدالة على المنع فإن الجمع والتوفيق بينها ممكن , وذلك يحمل (اللَّعْنَ) المذكور في الحديث:

-          كما قَالَ القُرْطُبِيُّ: «اللَّعْنُ المَذْكُورُ فِي الحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُكْثِرَاتِ مِنْ الزِّيَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الصِّيغَةُ (زَوَّارَاتِ) مِنْ المُبَالَغَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالتَّبَرُّجِ، وَمَا يَنْشَأُ مِنَ الصِّيَاحِ (العَوِيلِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يُقَالُ: إذَا أَمِنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَلاَ مَانِعَ مِنْ الإِذْنِ لَهُنَّ؛ لأَنَّ تَذَكُّرَ المَوْتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ». اهـ.
ما جاء مشكلا في بعض الأحاديث وبينته أحاديث أخر:
1.    أحاديث ترك الصلاة:

ومن هذا القبيل أحاديث ترك الصلاة ، منها حديث جابر مرفوعا: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)[36]
    -   وفي رواية ابن حبان من حديث جابر مرفوعا: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة) .

    -   وعنده أيضا من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعا: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)[37].

*     فظاهر هذه الأحاديث يفيد أن تارك الصلاة كافر ، وهو قول علي بن أبي طالب ، وجماعة من السلف، وبه قال أحمد بن حنبل وابن المبارك وإسحاق بن حبيب من المالكية[38]. لكن النظر في مجموع الروايات الأخرى يفيد أن هذا الإطلاق غير مراد على حقيقته :

 -  وأصرح منه في انتفاء الكفر عن تارك الصلاة حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة)[39].

ثم إنه قد وردت أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها إطلاق الكفر، منها حديث عبد الله بن مسعود : (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
   -  وحديث جرير : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)
   -  وحديث أبي هريرة : (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت)
   -  وحديث جرير : (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم)[40]... وأشباهها.

فإذا كان الكفر في هذه الأحاديث غير مراد على حقيقته، فلا مناص من التأويل .

 *  خذ مثلا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)

 - قال القاضي عياض في شرحه : (نهاهم عن التشبيه بالكفار في حال قتل بعضهم بعضا ومحاربة بعضه لبعض، وهذا أولى ما يتأول عليه الحديث ، ويؤيده ما روي مما جرى بين الأنصار بمحاولة يهود، وتذكيرهم أيامهم ودخولهم في الجاهلية حتى ثار بعضهم إلى بعض في السلاح فنزلت:( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ) أي : تفعلون فعل الكفار، أو نهاهم عن إظهار جحد ما أمرهم به من تحريم دمائهم ،وكفرهم في ذلك بقتالهم لا بقولهم واعتقادهم)[41].

     * وبوب البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه (باب كفران العشير ،وكفر دون كفر) ، وساق فيه حديث ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن،  قيل أيكفرن بالله ؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا، قالت : مارأيت منك خيرا قط)[42] .

 - ومن ثم أول العلماء الأحاديث التي يوهم ظاهرها تكفير أصحاب المعاصي، فبعضهم أولها بمعنى استحلال هذه المعاصي، وبعضهم حملها على معنى العاقبة، وبعضهم حملها على كفر العمل أو الكفر المجازي أو الكفر الأصغر ..[43]

  -  وذهب بعض المعاصرين ، وهو الدكتور صلاح الصاوي مذهبا وسطا في ذلك ، فقال : (والذي يبدو لنا التفريق بين مقامين: الأول :مقام الدعوة والإرشاد ، وفيه يجب أن نطلق هذه النصوص كما أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يتأول لها بما يضعف أثرها المقصود بها، وهو الزجر عن هذه المنكرات.والثاني : مقام التعليم وإجراء الأحكام ، وفيه يجب أن يجمع بين النصوص الشرعية ، وأن يبين مذهب أهل الحق في التعامل مع أصحاب المعاصي ، وضوابط إجراء الأحكام عليهم ، منعا للتهارج والتـقاذف بأحكام الكفر بغير ضابط)[44].
2.    الأحاديث التي تفيد بقطع المرأة والحمار والكلب للصلاة

ومما يدخل في هذا الباب أيضا الأحاديث التي تفيد بقطع المرأة والحمار والكلب .

-  مثل حديث أبي ذر قال: قال رسول الله : (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود. قلت يا أبا ذر ما بال   الكلب الأسود  من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر قال يا ابن أخي سألت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  كما سألتني فقال   الكلب الأسود  شيطان )[45] 
*    لكن النظر في الأحاديث الأخرى والتي خرجها مسلم في نفس الموضع تثبت خلاف ذلك.

أ.  ففيما يخص المرأة :
 أخرج مسلم من حديث عائشة (أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة).

-  وأخرج من حديث عروة بن الزبير قال : (قالت عائشة : ما يقطع الصلاة ؟ قال : فقلنا : المرأة والحمار. فقالت: إن المرأة لدابة سوء لقد رأيتني بين يدي رسول الله  صلى الله عليه وسلم  معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي).

 -  وأخرج أيضا من حديث مسروق عن عائشة وذُكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة فقالت عائشة: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب ،والله لقد رأيت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله  صلى الله عليه وسلم فأنسل من عند رجليه)[46].
ب. أما فيما يخص الحمار :
  فقد أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن عباس قال: (   أقبلت راكبا على حمارٍ أتانٍ وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله  صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار ،فمررت بين يدي بعض الصف ، وأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف ،فلم ينكر ذلك علي)[47].
       ج. أما الكلب:
 فلم يرد فيه شيء يعارض هذا الحديث، ولذا قال الإمام أحمد: (يقطع الصلاة الكلب الأسود، وفي نفسي من الحمار والمرأة شيء)[48].
ونظرا لهذه النصوص مجتمعة، ذهب جمهور العلماء إلى أن الصلاة لا تبطل (بمرور شيء من هؤلاء ولا من غيرهم ،وتأول هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء وليس المراد إبطالها)[49].

 -  وحاصل مذهب ابن حبان أن هذه الثلاثة تقطع الصلاة حال مرورها أمام المصلي ، لا حال كونها معترضة بينه وبين القبلة،وهو وجه حسن في الجمع بين الأحاديث، لكن الإشكال يبقى واردا في الجمع بين المرأة هاهنا وبين الكلب والحمار ، وهو ما أثار غضب السيدة عائشة رضي الله عنها، وردته بحديثها السابق الذكر.

فَهْمُ السُنَّةِ فِي ضَوْءِ القُرْآنِ الكَرِيمِ:
من الواجب , لكي تفهم السُنَّةَ فَهْمًا صَحِيحًا , وبعيدًا عن التحريف والانتحال وسوء التأويل ـ أن تفهم في ضوء القرآن , وفي دائرة توجيهاته الربانية , والمقطوع بصدقها إذا أخبرت , وعدلها إذا حكمت , {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاً مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].فالقرآن هو روح الوجود الإسلامي , وأساس بنيانه , وهو بمثابة الدستور الأصلي , الذي ترجع إليه كل القوانين في الإسلام فهو أبوها وموئلها.

وما كان للبيان أن يناقض المُبَيَّنَ , ولا للفرع أن يعارض الأصل , فالبيان النبوي يدور أبدًا في فلك الكتاب العزيز ولا يتخطاه.

1.      ولهذا كان حديث (الغرانيق) المزعوم مردودًا بلا ريب , لأنه مناف للقرآن , ولا يتصور أن يجيء في سياق يندد فيه القرآن بالآلهة المزيفة حيث يقول: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19 - 23].
فكيف يعقل أن يدخل في سياق هذا الإنكار والتنديد بالأصنام كلمات تمتدحهن , وتقول: «تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلاَ , وَإِنَّ شَفَاعَتُهُنَّ لَتُرْتَجَى»؟! (1).
2.    وكان حديث «شَاوِرُوهُنَّ وَخَالِفُوهُنَّ» في شأن النساء باطلاً مكذوبًا لأنه مناف لقوله تعالى في شأن الوالدين مع رضيعيهما {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233].

3.    وقد توقفت في حديث رواه أبو داود وغيره «الوَائِدَةُ وَالمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ» [50] حين قرأت الحديث انقبض صدري وقلت: لعل الحديث ضعيف , فليس كل ما رواه أبو داود في " سننه " صحيحًا , كما يعلم أهل هذا الشأن , ولكن وجدت مَنْ نَصَّ عَلَى صِحَّتِهِ.
·        ومثله: «الوَائِدَةُ وَالمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ , إِلاَّ أَنْ تُدْرِكَ الوَائِدَةُ الإِسْلاَمَ فَتَسْلَمُ»[51]
أي أن للوائدة فرصة للنجاة من النار , والموءودة لا فرصة لها!
   - والحكم عليها بالنار يعارض قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9].

وقد رجعت إلى الشراح لأرى ماذا قالوا في توجيه الحديث , فلم أجد شيئًا ينقع الغلة.

4.    ومثل ذلك الحديث , الذي رواه مسلم عن أنس «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» (6) قاله جوابًا لمن سأله عن أبيه أين هو؟
وقلت: ما ذنب عبد الله بن عبد المطلب حتى يكون في النار , وهو من أهل الفترة والصحيح أنهم ناجون؟

*    وكان قد خطر لي احتمال أن يكون المراد بقوله: «إِنَّ أَبِي» هو عمه أبا طالب الذي كفله ورعاه , وحدب عليه بعد موت جده عبد المطلب , واعتبار العم أَبًا أمر وارد في اللغة وفي القرآن , كقوله على لسان أبناء يعقوب: قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] وإسماعيل كان عَمًّا ليعقوب , واعتبره القرآن أَبًا.
ولا غرو أن يكون أبو طالب من أهل النار , بعد رفضه أن ينطق بكلمة التوحيد إلى آخر لحظة في حياته , وقد صحت جملة من الأحاديث تنبئ بأنه أهون أهل النار عذابًا.

  ولكن أضعف هذا الاحتمال عندي أنه خلاف المتبادر من ناحية , ومن ناحية أخرى: ما ذنب أبي الرجل السائل؟ والظاهر أن أباه مات قبل الإسلام. لهذا توقفت في الحديث حتى يظهر لي شيء يشفي الصدر.

    أما شيخنا الشيخ محمد الغزالي: فقد رفض الحديث صراحة , لأنه ينافي قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] , وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، { ... أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19].

·        والعرب لم يبعث إليهم رسول , ولم يأتهم نذير قبل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما صرحت بذلك جملة من آيات في كتاب الله {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6].

·        و.. الفقهاء إذا تكلموا في الفترة فإنما يعنون التي بين عيسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر البخاري عن سلمان أنها ستمائة سنة.

فهمُ الأَحَادِيثِ فِي ضَوْءِ أَسْبَابِهَا وَمُلاَبَسَاتِهَا وَمَقَاصِدَهَا:
ومن حسن الفقه للسنة النبوية: النظر فيما بني من الأحاديث على أسباب خاصة أو ارتبط بعلة معينة , منصوص عليها في الحديث أو مستنبطة منه , أو مفهومة من الواقع الذي سيق فيه الحديث.
فالناظر المتعمق يجد أن من الحديث ما بني على رعاية ظروف زمنية خاصة ليحقق مصلحة معتبرة , أو يدرأ مفسدة معينة , أو يعالج مشكلة قائمة , في ذلك الوقت.
ومعنى هذا أن الحكم الذي يحمله الحديث قد يبدو عَامًّا وَدَائِمًا , ولكنه ـ عند التأمل ـ مبني على علة , ويزول بزوالها , كما يبقى ببقائها.
وهذا يحتاج إلى فقه عميق , ونظر دقيق , ودراسة مستوعبة للنصوص , وإدراك بصير لمقاصد الشريعة , وحقيقة الدين , ومع شجاعة أدبية , وقوة نفسية للصدع بالحق , وإن خالف ما ألفه الناس وتوارثوه , وليس هذا بالشيء الهين , فقد كلف هذا شيخ الإسلام ابن تيمية معاداة الكثيرين من علماء زمنه , الذين كادوا له حتى أدخل السجن أكثر من مرة , ومات فيه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
لا بد لفهم الحديث فَهْمًا سَلِيمًا دَقِيقًا , من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص , وجاء بَيَانًا لها وعلاجًا لظروفها , حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة ولا يتعرض لشطحات الظنون , أو الجري وراء ظاهر غير مقصود.

ومما لا يخفى أن علماءنا , قد ذكروا أن مما يعين على حسن فهم القرآن معرفة أسباب نزوله , حتى لا يقع فيما وقع فيه بعض الغلاة من الخوارج وغيرهم , ممن أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين , وطبقوها على المسلمين

فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أو يفسره , كانت أسباب ورود الحديث أشد طلبًا.
ذلك أن القرآن بطبيعته عام وخالد , وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات والتفصيلات , والآنيات , إلا لتؤخذ منها المبادئ والعبر.
1.  مثل حديث : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ: [52] الذي يتخذ منه بعض الناس تكأة للتهرب من أحكام الشريعة في المجالات الاقتصادية والمدنية والسياسية , ونحوها لأنها ـ كما زعموا ـ مِنْ شُؤُونِ دُنْيَانَا , ونحن أعلم بها وقد وكلها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلينا!!
·       سببه :
والحديث «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» يفسره سبب وروده , وهو قصة تأبير النخل , وإشارته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم برأي ظني يتعلق بالتأبير , وهو ليس من الزراعة , وقد نشأ بواد غير ذي زرع , فظنه الأنصار وَحْيًا , أَوْ أَمْرًا دِينِيًّا , فتركوا التأبير , فكان تأثيره سَيِّئًا على الثمرة , فقال: «إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلاَ تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ» ... إلى أن قال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» .. فهذه هي قصة الحديث.
2.    حديث: َنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ:
 -   قال عليه الصلاة والسلام : «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ». [قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ:] «لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا» [53]
   فقد يفهم منه البعض تحريم الإقامة في بلاد غير المسلمين بصفة عامة , ومع تعدد الحاجة إلى ذلك في عصرنا , للتعلم , والتداوي , والعمل , وللتجارة , وللسفارة , ولغير ذلك , وخصوصًا بعد أن تقارب العالم حتى غدا كأنه (قرية كبرى) كما قال أحد الأدباء!

    - ولفظ الحديث: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ القَتْلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ العَقْلِ (أَيْ الدِّيَةِ) وقال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: «لاَ تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» ..

·        فالحديث ـ كما ذكر العلامة رشيد رضا ـ ورد في وجوب الهجرة من أرض المشركين إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنصرته  فجعل لهم نصف الدية وهم مسلمون , لأنهم أعانوا على أنفسهم , وأسقطوا نصف حقهم،  بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وَشَدَّدَ في مثل هذه الإقامة التي يترتب عليها مثل ذلك من القعود عن نصر الله ورسوله , والله تعالى يقول في أمثال هؤلاء: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72].

3.    سَفَرُ المَرْأَةِ مَعَ مَحْرَمٍ :  
      أـ ومن ذلك ما جاء في " الصحيحين " من حديث ابن عباس وغيره مرفوعًا: «لاَ تُسَافِرِ [المَرْأَةُ] إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ».[54]
·       فالعلة وراء هذا النهي :
هو الخوف على المرأة من سفرها وحدها بلا زوج أو محرم في زمن كان السفر فيه على الجِمَالِ أَوْ البِغَالِ أَوْ الحَمِيرِ , وتجتاز فيه غالبًا صحارى ومفاوز تكاد تكون خالية من العمران والأحياء , فإذا لم يصب المرأة ـ في مثل هذا السفرـ شر في نفسها أصابها في سمعتها.

    * تغير الحال ـ كما في عصرنا ـ وأصبح السفر في طائرة تقل مائة راكب أو أكثر , أو في قطار يحمل مئات المسافرين , ولم يعد هناك مجال للخوف على المرأة إذا سافرت وحدها , فلا حرج عليها شرعًا في ذلك


-  ولا يعد هذا مخالفة للحديث , بل قد يؤيد هذا حديث عدي بن حاتم مرفوعًا عند البخاري: بهذه الصيغة: «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ»، انظر البخاري

-         ولا غرو أن وجدنا بعض الأئمة يجيزون للمرأة أن تحج بلا محرم ولا زوج , إذا كانت مع نسوة ثقات , أو في رفقة مأمونة  وهكذا حجت عائشة وطائفة من أمهات المؤمنين في عهد عمر , ولم يكن معهن أحد من المحارم , بل صحبهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - , كما في " صحيح البخاري ".

-         بل قال بعضهم: تكفي امرأة واحدة ثقة.
-         وقال بعضهم: تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنًا وصححه صاحب " المهذب " من الشافعية.
-         وهذا في سفر الحج والعمرة , وطرده بعض الشافعية في الأسفار كلها .[55]
مَنْهَجُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي النَّظَرِ إِلَى عِلَلِ النُّصُوصِ وَظُرُوفِهَا:
وهذا المنهج في النظر إلى ملابسات الأحاديث إلى العلل التي سيقت لها , قد سبق به الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - ومن تبعهم بإحسان.

فقد تركوا العمل بظاهر بعض الأحاديث , حين تبين لهم أنها كانت تعالج حالة معينة في زمن النبوة , ثم تبدلت تلك الحال عما كانت عليه.

   * من ذلك أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ خيبر بين الفاتحين , ولكن عمر لم يقسم سواد العراق , ورأى أن يبقيه في أيدي أربابه , ويفرض الخراج على الأرض , ليكون مَدَدًا دَائِمًا لأجيال المسلمين[56] ,
 -   وقال في ذلك ابن قدامة في تعليله : «وَقِسْمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ كَانَتْ فِي بَدْءِ الإِسْلاَمِ، وَشِدَّةِ الحَاجَةِ، فَكَانَتْ المَصْلَحَةُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْفِ الأَرْضِ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الوَاجِبَ». اهـ

مَا بُنِيَ مِنْ نُصُوصٍ عَلَى عُرْفٍ تَغَيَّرَ:
ومما يدخل فيما سبق أو يلحق به: النظر فيما بني من النصوص على عرف زمني كان قائمًا في عصر النبوة , ثم تغير في عصرنا , فلا حرج علينا من النظر في مقصود النص دون التمسك بحرفيته.
1.    تقدير نصاب الزكاة بالذهب والفضة :
·        من الأمثلة البارزة على أن النص قد يبنى على عُرْفٍ ثم يتغير: ما ثبت من تقديره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصابين لزكاة النقود , أحدهما بالفضة وقدره مائتا درهم (تقدر بـ 595 جرامًا) والثاني بالذهب وقدره عشرون مثقالاً أو دينارًا (تقدر بـ 85 جرامًا) وكان صرف الدينار يساوي في ذلك الوقت عشرة دراهم.

 -  وقد بينت في كتابي[57] " فقه الزكاة " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقصد إلى وضع نصابين متفاوتين للزكاة , بل هو نصاب واحد , مَنْ مَلَكَهُ اُعْتُبِرَ غَنِيًّا وجبت عليه الزكاة , قدر بعملتين جرى العرف بالتعامل بهما في عصر النبوة , فجاء النص بناءً على هذا العرف القائم , وحدد النصاب بمبلغين متعادلين تمامًا , فإذا تغير الحال في عصرنا وانخفض سعر الفضة بالنسبة لسعر الذهب انخفاضًا هائلاً , ولم يجز لنا أن نقدر النصاب بمبلغين متفاوتين غاية التفاوت , فنقول مثلاً: إن نصاب النقود ما يعادل قيمة (85 جرامًا) من الذهب , أو ما يعادل (595 جرامًا) من الفضة. وقيمة نصاب الذهب تزيد على قيمة نصاب الفضة حوالي عشرة أضعاف , وهذا لا يعقل: أن نقول لشخص معه مبلغ معين من الدنانير الكويتية أو الأردنية مثلاً أو الجنيهات المصرية , أو الريالات السعودية: أنت غني إذا قدرنا نصابك بالفضة , ونقول لمن يملك أضعاف ذلك: أنت فقير إذا قدرنا نصابك بالذهب!

*     والمخرج من ذلك هو تحديد نصاب واحد في عصرنا للنقود به يعرف الحد الأدنى للغنى الشرعي الموجب للزكاة[58],

  * وهذا ما ذهب إليه الأستاذ الكبير الشيخ محمد أبو زهرة وزميلاه المرحومان الشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ عبد الرحمن حسن - رَحِمَهُمْ اللهُ - في محاضرتهم عن «الزكاة» بدمشق سنة 1952م من التقدير بالذهب فقط , وهذا ما اخترته وأيدته في بحثي عن «الزكاة» [59].

2.    حَوْلَ زَكَاةِ الفِطْرِ:

1.    ومن الثابت أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج زكاة الفطر , ويأمر بإخراجها بعد صلاة الفجر , وقبل صلاة العيد من يوم الفطر.
                                                                                                                                                                                                                                                      
2.    وكان الوقت كافيًا لإخراجها وإيصالها إلى مستحقيها , لصغر حجم المجتمع , ومعرفة أهله بعضهم لبعض , ومعرفة أهل الحاجة منهم وتقارب منازلهم , فلم يكن في ذلك مشكلة.

3.    فلما كان في عصر الصحابة اتسع المجتمع , وتباعدت مساكنه , وكثر أفراده , ودخلت فيه عناصر جديدة , فلم تعد فترة ما بين صلاة الصبح وصلاة العيد كافية , فكان من فقه الصحابة أن كانوا يعطونها قبل العيد بيوم أو يومين.

4.    وفي عصر الأئمة المتبوعين من الفقهاء المجتهدين ازداد المجتمع توسعًا وتعقدًا فأجازوا إخراجها من منتصف رمضان , كما في المذهب الحنبلي , بل من أول رمضان كما في المذهب الشافعي..

5.    ولم يقفوا عند الأطعمة المنصوص عليها فِي السُنَّةِ , بل قاسوا عليها كل ما هو غالب قوت البلد :

بل زاد بعضهم جواز إخراج القيمة , لا سيما إذا كانت أنفع للفقير , وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه , إذ المقصود (إغناء المساكين) في هذا اليوم الكريم , والإغناء كما يتحقق بالطعام يتحقق بدفع قيمته , وربما كانت القيمة أَوْفَى بمهمة الإغناء من الطعام , وخصوصًا في عصرنا , وفي هذا رعاية لمقصود النص النبوي , وتطبيق لروحه , وهذا هو الفقه الحقيقي.

السُنَّةُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالرُّوحِ أَوْ بَيْنَ الظَّوَاهِرِ وَالمَقَاصِدِ
   إن التمسك بحرفية السُنَّةِ أحيانًا لا يكون تنفيذًا لروح السُنَّةِ ومقصودها بل يكون مُضَادًّا لَهَا , وإن كان ظاهره التمسك بها
خُذْ مَثَلاً تَشَدُّدَ الذين يرفضون كل الرفض إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقدًا , كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه , وهو قول عمر بن عبد العزيز وغيره من فقهاء السلف .. وحجة هؤلاء المتشددين:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبها في أصناف معينة من الطعام: التمر والزبيب والقمح والشعير , فعلينا أن نقف عند ما حدده رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا نعارض السُنَّةَ بالرأي.

ولو تأمل هؤلاء الأخوة في الأمر كما ينبغي له، لوجدوا أنهم خالفوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحقيقة، وإن اتبعوه في الظاهر. أَقْصِدُ أَنَّهُمْ عَنُوا بِجِسْمِ السُنَّةِ وَأَهْمَلُوا رُوحَهَا.

فالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاعَى ظروف البيئة والزمن , فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من الأطعمة , وكان ذلك أيسر على المعطي , وأنفع للآخذ.

فقد كانت النقود عزيزة عند العرب , وخصوصًا أهل البوادي. وكان إخراج الطعام ميسورًا لهم , والمساكين محتاجون إليه , لهذا فرض الصدقة من الميسور لهم.

التَّمْيِيزُ بَيْنَ الوَسِيلَةِ المُتَغَيِّرَةِ وَالهَدَفِ الثَّابِتِ لِلْحَدِيثِ

ومن أسباب الخلط والزلل في فهم السنة: أن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعى السنة إلى تحقيقها , وبين الوسائل الآنية والبيئة التي تعينها أحيانًا للوصول إلى الهدف المنشود، فتراهم يركزون كل التركيز على هذه الوسائل , كأنما مقصوده لذاتها , مع أن الذي يتعمق في فهم السنة وأسرارها , يتبين له أن المهم هو الهدف , وهو الثابت والدائم , والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العرف أو غير ذلك من المؤثرات .

·        ما يتعلق بالطب النبوي

   ومن هنا تجد اهتمام كثير من الدارسين للسنة , المهتمين بالطب النبوي يركزون بحثهم واهتمامهم على الأدوية والأغذية والأعشاب والحبوب وغيرها مما وصفه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للتداوي به في علاج بعض العلل والأمراض البدني.

v    ومن ثم يذكرون الأحاديث المعروفة هنا مثل:
-  خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الحِجَامَةُ» [60]
-  عَلَيْكُمْ بِهَذَا العُودِ الهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ .. »[61]
-  «عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ»، وَالسَّامُ المَوْتُ.[62]
    -  «فِي الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، إِلاَّ السَّامَ» (أي الموت)  [63]
    -   «اكْتَحِلُوا بِالإِثْمِدِ فَإِنَّهُ يَجْلُو البَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ»  [64]

    ورأيي – القرضاوي- : أن هذه الوصفات وما شابهها ليست هي روح الطب النبوي , بل روحه المحافظة على صحة الإنسان وحياته , وسلامة جسمه , وقوته , وحقه في الراحة إذا تعب , وفي الشبع إذا جاع , وفي التداوي إذا مرض , وأن التدواي لا ينافي الإيمان بالقدر , ولا التوكل على الله تعالى , وأن لكل داء دواء , وإقرار سنة الله في العدوى , وشرعية الحَجْرِ الصِّحِيِّ , والعناية بنظافة الإنسان والبيت والطريق , ومنع تلويث المياه والأرض , والاهتمام بالوقاية قبل العلاج , وتحريم كل ما يضر تناوله بالإنسان من مسكر أو مفتر , أو أي غذاء ضار , أو مشرب ملوث , وتحريم إرهاق الجسم الإنساني ولو في عبادة الله تعالى , وتشريع الرخص حفظًا للأبدان , والمحافظة على الصحة النفسية بجوار الصحة الجسدية , إلى غير ذلك من التوجيهات التي تمثل حقيقة الطب النبوي الصالح لكل زمان ومكان.

إن الوسائل قد تتغير من عصر إلى عصر , ومن بيئة إلى أخرى , بل هي لا بد متغيرة , فإذا نص الحديث على شيء منها ,فإنما ذلك لبيان الواقع , لا ليقيدنا بها , ويجمدنا عندها.

بل نص القرآن نفسه على وسيلة مناسبة لمكان معين وزمان معين فلا يعني ذلك أن نقف عندها , ولا نفكر في غيرها من الوسائل المتطورة بتطور الزمان والمكان.

  - ألم يقل القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِم} [الأنفال: 60].
ومع هذا لم يفهم أحد أن المرابطة في وجه الأعداء لا تكون إلا بالخيل التي نص القرآن عليها. بل فهم كل من له عقل يعرف اللغة والشرع: أن خيل العصر هي الدبابات والمدرعات ونحوها من أسلحة العصر.

- وما ورد في فضل احتباس الخيل , وعظيم الأجر فيه , مثل حديث «الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ: الأَجْرُ وَالمَغْنَمُ»[65].  ينبغي أن يطبق على كل وسيلة تستحدث , وتقوم مقام الخيل , أو تتفوق عليها بأضعاف مضاعفة

·         وأعتقد أن تعيين السواك لتطهير الأسنان من هذا الباب , فالهدف هو طهارة الفم , حتى يرضى الرب , كما في الحديث «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ». [66]
ولكن هل السواك مقصود لذاته , أم كان هو الوسيلة الملائمة الميسورة في جزيرة العرب؟ فوصف لهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يؤدي الغرض ولا يعسر عليهم.

ولا بأس أن تتغير هذه الوسيلة في مجتمعات أخرى , ولا يتيسر لها هذا العود , إلى وسيلة يمكن تصنيعها بوفرة تكفي مئات الملايين من الناس , مثل (الفرشاة).    وقد نص بعض الفقهاء على نحو ذلك.

    -  ونقل مهذب الكتاب الشيخ عبد الله البسام عن النووي قوله: «بِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَاكَ مِمَّا يُزِيلُ التَّغَيُّرَ حَصُلَ الاِسْتِيَاكُ , كَالخِرْقَةِ وَالإِصْبُعِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , لِعُمُومِ الأَدِلَّةِ [67]

    -  وفي " المغني ": «أَنَّهُ يُصِيبُ مِنَ السُّنَّةِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الإِنْقَاءِ، وَلاَ يُتْرَكُ القَلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ لِلْعَجْزِ عَنْ كَثِيرِهَا» وَذَكَرَ أَنَّهُ الصَّحِيحُ  

·        من ذلك لعق الأصابع في الطعام ولحس القصعة :

     -  ذلك ما رواه الشيخان عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ [يَدَهُ] حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا»  

     -  وروى مسلم عن كعب بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ بِثَلاَثِ أَصَابِعَ، فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا»  

   - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلاَثَ، قَالَ: وَقَالَ: «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ»، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ القَصْعَةَ (أي نمسحها)، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ» [68]

إن الذي ينظر إلى لفظ هذه الأحاديث فقط لا يفهم منها إلا الأكل بالأصابع الثلاث , ولعقها بعد الأكل , ولعق القصعة أو سلتها ومسحها , سنة نبوية , وربما نظر إلى من يأكل بالملعقة نظرة اشمئزاز , وإنكار, لأنه في رأيه مخالف للسنة متشبه بالكفار!

والحق أن روح السنة الذي يؤخذ من هذه الأحاديث هو تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وتقديره لنعمة الله تعالى في الطعام , والحرص على ألا يضيع منه شيء هدرًا بغير منفعة , كبقايا الطعام التي تترك في القصعة أو اللقم التي تسقط من بعض الناس , فيستكبر عن التقاطها , إِظْهَارًا لِلْغِنَى وَالسَّعَةِ , وَبُعْدًا عن مشابهة أهل الفقر والعوز , الذين يحرصون على الشيء الصغير , ولو كان لقمة من خبز.

·        ولكن الرسول الكريم يعتبر اللقمة إذا تركت إنما تترك للشيطان.

      إنها تربية نفسية , وأخلاقية , واقتصادية , في الوقت نفسه , لو عمل بها المسلمون ما رأينا الفضلات التي تلقى كل يوم ـ بل كل وجبة ـ في سلة المهملات , وأوعية القمامة , ولو حسبت على مستوى الأمة المسلمة لقدرت قيمتها الاقتصادية كل يوم بالملايين , فكيف بها في شهر أو سنة كاملة؟.

     هذه هي الروح الكامنة وراء هذه الأحاديث , ورب أمرىء يجلس على الأرض ويأكل بأصابعه , ويلعقها ـ اتباعًا للفظ السنة ـ ولكنه بعيد عن خلق التواضع , وخلق الشكر , وخلق الاقتصاد في استخدام النعمة , التي هي الغاية المرتجاة من وراء هذا الآداب.

ومن عجيب ما سمعته ما ذكره لي بعض العلماء: أنه زار بعض البلاد في آسيا الإسلامية , فوجد في دورات المياه عندهم أحجار صغيرة مكدسة في جوانبها , فسألهم عن سرها , فقالوا: إننا نستجمر ـ نستنجى ـ بها , إحياء للسنة!.

وكان على هؤلاء أن يفرشوا مساجدهم بالحصباء اتباعا للسنة , وأن يدعوها بلا أبواب محكمة , تغدو الكلاب فيها وتروح , اتباعًا للسنة , وأن يسقفوها بجريد النخل , ويضيئوها بمصابيح الزيت اتباعًا للسنة! ولكن مساجدهم مزخرفة , مفروشة بالسجاجيد , مضاءة بثريات الكهرباء .

·        رُؤْيَةُ الهِلاَلِ لإِثْبَاتِ الشَّهْرِ:
ومما يمكن أن يدخل في هذا الباب: ما جاء في الحديث الصحيح المشهور: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ (أي الهلال) وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ , فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» وفي لفظ آخر: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ».

    فهنا يمكن للفقيه أن يقول: إن الحديث الشريف أشار إلى هدف , وَعَيَّنَ وَسِيلَةً.

أما الهدف من الحديث فَهُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ , وهو أن يصوموا رمضان كله , ولا يضعوا يومًا منه , أو يصوموا يومًا من شهر غيره , كشعبان أو شوال , وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه , بوسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس , لا تكلفهم عَنَتًا وَلاَ حَرَجًا فِي دِينِهِمْ.

وكانت الرؤية بالأبصار هي الوسيلة السهلة والمقدورة لعامة الناس في ذلك العصر , فلهذا جاء الحديث بتعيينها , لأنه لو كلفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي ـ والأمة في ذلك الحين أمية لا تكتب ولا تحسب ـ لأرهقهم من أمرهم عُسْرًا , واللهُ يريد بأمته اليسر ولا يريد بهم العسر , وقد قال - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -عن نفسه: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»

فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيق هدف الحديث , وأبعد عن احتمال الخطأ , والوهم والكذب في دخول الشهر , وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة , ولم تعد وسيلة صعبة المنال , ولا فوق طاقة الأمة , بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون وجيولوجيون وفيزيائيون متخصصون على المستوى العالمي , وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغًا مكن الإنسان أن يصعد إلى القمر نفسه , وينزل على سطحه , ويجوس خلال أرضه , ويجلب نماذج من صخوره وأتربته! فلماذا نجمد على الوسيلة ـ وهي ليست مقصودة لذاتها ـ ونغفل الهدف الذي نشده الحديث؟ .

تَّفْرِيقُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالمَجَازِ فِي فَهْمِ الحَدِيثِ

العربية لغة للمجاز فيها نصيب موفور , والمجاز أبلغ من الحقيقة كما هو مقرر في علوم البلاغة , والرسول الكريم أبلغ من نطق بالضاد وكلامه تنزيل من التنزيل , فلا عجب أن يكون في أحاديثه الكثير من المجازات , المعبرة عن المقصود بأروع صور.

   والمراد بالمجاز هنا: ما يشمل المجاز اللغوي والعقلي , والاستعارة والكناية , والاستعارة التمثيلية , وكل ما يخرج باللفظ أو الجملة عن دلالتها المطابقية الأصلية

وإنما يعرف المجاز في الكلام بالقرائن الدالة عليه , سواء كانت قرائن مقالية أم حالية.

-       ومن ذلك ما ينسب فيه الكلام والحوار إلى الحيوانات والطيور والجمادات والمعاني.
-       كقولهم: قِيلَ لِلْشَّحْمِ (أي للسمن): أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قَالَ: أُقَوِّمُ العِوَجَ (أَيْ أُدَارِي العُيُوبَ الجِسْمِيَّةَ التِي تَظْهَرُ بِالنَّحَافَةِ).
-       قَالَ الخَشَبُ لِلْمِسْمَارِ: لِمَاذَا تُشْقِنِي؟ قَالَ: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي!

  فحين قال الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنسائه من أمهات المؤمنين: «أَسْرَعُكُنَّ لُحُوقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا» حملنه على طول اليد الحقيقي المعهود قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ - أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا؟! بل في بعض الأحاديث أنهن أخذن (قصبة) لقياس أي الأيدي أطول؟!
والرسول لم يقصد ذلك , إنما قصد طول اليد في الخير , وبذل المعروف. وهذا ما صدقه الواقع , فكانت أول نسائه لَحُوقًا به هي زينب بنت جحش , كانت امرأة صناعًا , تعمل بيدها وتتصدق.[69]

   *  الخطأ في فهم قوله تعالى في شأن الصيام: {.. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]

روى البخاري عَنْ عَدِيٍّ بْنِ حَاتِمٍ قال: لما نزلت هذه الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا البقرة: 187] عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود , والآخر أبيض , قال: فجعلتهما تحت وسادتي , قال فجعلت أنظر إليهما , فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت , فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بالذي صنعت , فقال: «إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ .

-   ومعنى (إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ) أي إن كان ليسع الخيطين: الأسود , والأبيض , المرادين من الآية تحته , فإنهما بياض النهار وسواد الليل , فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب

*    مثل أحاديث الصفات وتأويلها على المجاز :

   -  ومثل ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي المعروف: «وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» [70]

فقد شغب المعتزلة على أهل الحديث بروايتهم مثل هذا النص , وعزوهم ذلك إلى الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - , وهو يوهم تشبيهه تعالى بخلقه في القرب المادي والمشي والهرولة , وهذا لا يليق بكمال الألوهية.

  -  وقد رد على هؤلاء الإمام ابن قتيبة في كتابه:" تأويل مختلف الحديث " بقوله: «إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: مَنْ أَتَانِي مُسْرِعًا بِالطَّاعَةِ، أَتَيْتُهُ بِالثَّوَابِ أَسْرَعَ مِنْ إِتْيَانِهِ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِالمَشْيِ وَبِالهَرْوَلَةِ.

*              وقد نجد في بعض الأحاديث ضَرْبًا مِنَ الإِشْكَالِ , خُصُوصًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُثَقَّفِ المُعَاصَرِ , وَذَلِكَ إِذَا حُمِلَتْ عَلَى مَعَانِيهَا الحَقِيقِيَّةِ , كما تؤديها الألفاظ بحسب الدلالة الأصلية , فإذا حملت على المعنى المجازي , زال الإشكال أو أسفر وجه المعنى المراد

     - ولنأخذ مثالاً لذلك: حديث الشيخين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا!، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»[71]  
فطلبة المدارس في عصرنا يدرسون في الجغرافيا أسباب تغير الفصول , وظهور الصيف والشتاء , والحر والبرد , وهي تقوم على سنن كونية وأسباب معلومة للدارسين
   * فينبغي حمل الحديث على المجاز والتصوير الفني , الذي يصور شدة الحر على أنها من أنفاس جهنم , كما يصور الزمهرير على أنه نفس آخر من أنفاسها , وجهنم تحوي من ألوان العذاب أشد الحرارة وأشد الزمهرير.

*      ومثل ذلك حديث أبي هريرة في " الصحيحين " عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , قال: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ!، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22 [72]

·        ولكن القاضي عياضًا حمل الحديث على المجاز, وأنه من باب ضرب المثل.
\
  - وقال ابن أبي جمرة في " شرح مختصر البخاري " في شرح معنى وصل الله تعالى لمن وصل رحمه: «الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه , وإنما خاطب الناس بما يفهمون , ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال وهو القرب منه , وإسعافه بما يريد , ومساعدته على ما يرضيه وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى, عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده. قال: وكذا القول في القطع , هو كناية عن الحرمان والإحسان».

وأعتقد أن هذا اللون من التأويل , بحمل الحديث على المجاز , لا يضيق الدين به ذَرْعًا , على أن يكون مقبولاً غير متكلف ولا متعسف وأن يكون ثمة موجب للتأويل , والخروج من الحقيقة إلى المجاز , على معنى أن يوجد مانع من صريح العقل , أو صحيح الشرع , أو قطعي العلم , أو مؤكد الواقع , يمنع من إرادة المعنى الحقيقي

*           وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين وغيرهما: «يُؤْتَى بِالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ» [73]

ترى ماذا يفهم من هذا الحديث؟ وكيف يذبح الموت؟ أو يموت الموت؟؟

لَقَدْ وَقَفَ عِنْدَهُ القَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ، وَقَالَ: «اسْتُشْكِلَ هَذَا الحَدِيثُ لِكَوْنِهِ يُخَالِفُ صَرِيحَ العَقْلِ لأَنَّ المَوْتَ عَرَضٌ وَالعَرَضُ لاَ يَنْقَلِبُ جِسْمًا فَكَيْفَ يُذْبَحُ؟؟ فَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ هَذَا الحَدِيثِ وَدَفَعَتْهُ .

-  وَتَأَوَّلَتْهُ طَائِفَةٌ فَقَالُوا هَذَا تَمْثِيلٌ، وَلاَ ذَبْحَ هُنَاكَ حَقِيقَةً

  - على أن الحافظ نقل في " الفتح " عن قائل لم يعينه , قَالَ: «لاَ مَانِعَ أَنْ يُنْشِىءَ اللَّهُ مِنَ [الأَعْرَاضِ أَجْسَادًا] يَجْعَلُهَا مَادَّةً لَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " فِي حَدِيثِ " إِنَّ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَجِيئَانِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيثِ».[74]

وإلى هذا نزع العلامة الشيخ أحمد شاكر في تخريجه لـ " المسند " , فبعد أن نقل عن " الفتح " استشكال ابن العربي للحديث , ومحاولته تأويله قال: «وَكُلُّ تَكَلُّفٍ وَتَهَجُّمٍ عَلَى الغَيْبِ الذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ، وَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ أَنْ نُؤْمِنَ بِمَا وَرَدَ كَمَا وَرَدَ , وَلاَ نُنْكِرُ وَلاَ نَتَأَوَّلُ. وَالحَدِيثُ صَحِيحٌ , ثَبَتَ مَعْنَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عِنْدَ البُخَارِيِّ , مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ. وَعَالِمُ الغَيْبِ الذِي وَرَاءَ المَادَّةِ لاَ تُدْرِكُهُ العُقُولُ المُقَيَّدَةُ بِالأَجْسَامِ فِي هَذِهِ الأَرْضِ , بَلْ إِنَّ العُقُولَ عَجَزَتْ عَنْ إِدْرَاكِ حَقَائِقَ المَادَّةِ التِي فِي مُتَنَاوَلِ إِدْرَاكِهَا , فَمَا بَالُهَا تَسْمُو إِلَى الحُكْمِ عَلَى مَا خَرَجَ مِنْ نِطَاقِ قُدْرَتِهَا وَمِنْ سُلْطَانِهَا؟! وَهَا نَحْنُ أُولاَءِ فِي عَصْرِنَا نُدْرِكَ تَحْوِيلَ المَادَّةِ إِلَى قُوَّةٍ وَقَدْ نُدْرِكُ تَحْوِيلَ القُوَّةِ إِلَى مَادَّةٍ , بِالصِّنَاعَةِ وَالعَمَلِ , مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ المَادَّةِ وَلاَ تِلْكَ , وَمَا نَدْرِي مَاذَا يَكُونُ مِنْ بَعْدُ , إِلاَّ أَنَّ العَقْلَ الإِنْسَانِيَّ عَاجِزٌ وَقَاصِرٌ , وَمَا المَادَّةُ وَالقُوَّةُ وَالعَرَضُ وَالجَوْهَرُ , إِلاَّ اِصْطِلاَحَاتٌ لِتَقْرِيبِ الحَقَائِقِ , فَخَيْرٌ لِلإِنْسَانِ أَنْ يُؤْمِنَ وَأَنْ يَعْمَلَ صَالِحًا , ثُمَّ يَدَعُ مَا فِي الغَيْبِ لِعَالَمِ الغَيْبِ , لَعَلَّهُ يَنْجُو يَوْمَ القِيَامَةِ. {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]». اهـ.  [75]

      وَكَلاَمُ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي تَعْلِيلِ رَفْضِ التَّأْوِيلِ لِلْنُّصُوصِ المُحْكَمَاتِ فِي الشُّؤُونِ الغَيْبِيَّةِ يَقُومُ عَلَى مَنْطِقٍ قَوِيٍّ مُقْنِعٍ.
  - وَلَكِنَّهُ فِي هَذَا المَقَامِ خَاصَّةً غَيْرُ مُسَلَّمٍ , وَالفِرَارُ مِنَ التَّأْوِيلِ هُنَا لاَ مُبَرِّرَ لَهُ , فَمِنَ المَعْلُومِ المُتَيَقَّنِ الذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ العَقْلُ وَالنَّقْلُ أَنَّ المَوْتَ ـ الذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الإِنْسَانِ لِلْحَيَاةِ ـ لَيْسَ كَبْشًا وَلاَ ثَوْرًا , وَلاَ حَيَوَانًا مِنَ الحَيَوَانَاتِ , بَلْ هُوَ مَعْنَى مِنَ المَعَانِي , أَوْ كَمَا عَبَّرَ القُدَمَاءُ عَرَضٌ مِنَ الأَعْرَاضِ , وَالمَعَانِي لاَ تَنْقَلِبُ أَجْسَامًا وَلاَ حَيَوَانَاتٍ إِلاَّ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ وَالتَّصْوِيرِ , الذِي يُجَسِّمُ المَعَانِي لِمَعْقُولاَتٍ , وَهَذَا هُوَ الأَلْيَقُ بِمُخَاطَبَةِ العَقْلِ المُعَاصِرِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

*      ومنذ سنوات كتب أحد دعاة النصرانية يهاجم الفكر الإسلامي بأنه يؤمن بالخرافات في عصر العلم والتنوير , مستندًا إلى بعض الأحاديث مثل ما روى البخاري وغيره: «الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» [76]  
     - ويقول: الحمى ليست من فيح جهنم , بل من فيح الأرض , وما فيها من أقذار , تساعد على تولد الجراثيم

والكاتب الغبي أو المتغابي , يجهل أو يتجاهل المعنى المجازي المراد من الحديث والذي يفهمه كل من يتذوق العربية , ونحن نقول في اليوم الشديد الحر: أن طاقة فتحت من جهنم , والقائل والسامع يفهم كلاهما المقصود من هذا الكلام .

*    وقد حكى عن بعض الصالحين أنه تأخر عن إخوانه يومًا , فسألوه عن ذلك فقال: «كُنْتُ أُمَرِّغُ خَدِّي فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ , فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِ الأُمَّهَاتِ) ولم يفهم إخوانه منه إلا أنه كان في خدمة أمه وحياطتها , مبتغيًا بذلك مثوبة الله تعالى وجنته 

*                وحدثني الأستاذ مصطفى الزرقاء – القرضاوي : أن أستاذًا كبيرًا من أعلام القانون الوضعي في مصر , بل في العالم العربي , قال له يوما: إنه اشترى كتاب " صحيح البخاري " ثم فتحه مرة فوقع نظره على حديث يقول: «النِّيلُ وَالفُرَاتُ وَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ )

   ولما كان الأستاذ يرى ذلك مخالفًا للواقع ـ إذ أن منابع هذه الأنهار معروفة لكل دارس , فهي نابعة من الأرض وليست من الجنة , فقد أعرض عن كتاب البخاري كله , ولم يفكر في مجرد تصفحه بعد , نتيجة لهذا الوهم الذي استقر في رأسه
ولو تواضع هذا الرجل قليلاً , ورجع إلى أحد شراح " البخاري " , أو سأل أحد العلماء المتضلعين من معاصريه , لبان له الحق كالصبح لذي عينين , ولكن الكِبْرَ من أعظم الحجب عن رؤية الحقيقة.

     - ذكر ابن حزم هنا الحديث الصحيح «سَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ» (وحديث «بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ»   ,
   
        ثم قال: «وَهَذَانِ الحَدِيثَانِ لَيْسَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ أَهْلُ الجَهْلِ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الرَّوْضَةَ قِطْعَةٌ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ الجَنَّةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الأَنْهَارَ مُهْبَطَةٌ مِنْ الجَنَّةِ، هَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ».
ثم ذكر ابن حزم أن معنى كون تلك الروضة من الجنة إنما هو لفضلها , وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة. وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة ..
   كما تقول في اليوم الطيب: «هَذَا مِنْ أَيَّامِ الجَنَّةِ» , وكما قيل في الضأن: «إِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الجَنَّةِ» وكما قال - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ». ومثل ذلك حديث «الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ».

    يقول ابن حزم في هذه الأخبار: «[قَدْ صَحَّ] البُرْهَانُ مِنْ القُرْآنِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ الحِسِّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا»  

هذا هو موقف ابن حزم المعروف بظاهريته وتمسكه بحرفية النصوص إلى حد الجمود , ومع هذا لم يسغ عنده أن تحمل النصوص على ظواهرها , فإنما يظن ذلك أهل الجهل كما قال!!

تَأْوِيلاَتٌ مَرْفُوضَةٌ

*    من التأويلات المرفوضة تأويلات الباطنية التي لا دليل عليها من العبارة ولا من السياق , كقول من قال منهم في حديث «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً»  المراد بالسحور هنا: الاستغفار  !! ولا ريب أن الاستغفار بالأسحار من أعظم ما حث عليه القرآن والسنة ولكن كونه المراد بالحديث هنا اعتساف مردود على قائله.

*    ومن ذلك تأويل الأحاديث الواردة في شأن المسيح الدجال , الذي أمرنا أن نستعيذ بالله من شر فتنته في كل صلاة ـ بأنها ترمز إلى الحضارة الغربية السائدة الآن , فهي حضارة عوراء ـ مثلما وصف الدجال بأنه أعور , وأنها تنظر إلى الحياة والإنسان بعين واحدة هي العين المادية فقط , وما عدا ذلك لا تراه , فلا روح للإنسان , ولا إله للكون , ولا آخرة بعد هذه الحياة الدني.
فهذا التأويل مخالف لما أثبتته الأحاديث المتكاثرة أن الدجال إنسان فرد شخص , يغدو ويروح , ويدخل ويخرج , ويدعو ويغري ويهدد  إلخ ما صحت به الأحاديث في ذلك , وقد بلغت حد التواتر

*    ومن ذلك تأويل بعض الكتاب المعاصرين من المسلمين , الأحاديث التي جاءت بنزول المسيح آخر الزمان ـ وهي أحاديث بلغت حد التواتر كما بَيَّنَ ذَلِكَ جمع من الأئمة الحفاظ .[77]  أنها ترمز إلى عصر يسود فيه السلام والأمن , فقد اشتهر بين الناس أن المسيح هو داعية السلام والسماحة بين البشر





التَّأَكُّدُ مِنْ مَدْلُولاَتِ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ:

ومن المهم جِدًّا لفهم السنة فَهْمًا صَحِيحًا: التأكد من مدلولات الألفاظ التي جاءت بها السنة , فإن الألفاظ تتغير دلالاتها من عصر لآخر ومن بيئة لأخرى , وهذا أمر معروف لدى الدارسين لتطور اللغات وألفاظها وأثر الزمان والمكان فيها.

  -   وقد نبه الإمام الغزالي على تبدل أسامي بعض العلوم والمعاني عما كانت تدل عليه في عهود السلف , وحذر من خطر هذا التبدل وتضليله لأفهام من لا يتعمقون في تحديد المفاهيم , وعقد لذلك فصلا قيما في (كتاب العلم) من " الإحياء " قال فيه: «اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية , تحريف الأسامي المحمودة وتبديلها , ونقلها بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح , والقرن الأول , وهي خمسة ألفاظ: الفقه , والعلم , والتوحيد , والتذكير , والحكمة , فهذه أسام محمودة , والمتصفون بها أرباب المناصب في الدين , ولكنها نقلت الآن إلى معان مذمومة فصارت القلوب تنفر عن مذمة من يتصف بمعانيها , لشيوع إطلاق الأسامي عليهم»   وشرح ذلك - رَحِمَهُ اللهُ - في جملة صفحات [78]
    فإن هناك ألفاظ كثيرة بدلت في مجالات شتى يصعب حصرها . ثم لا يزال هذا التبدل يتسع , مع تغير الزمان , وتبدل المكان , وتطور الإنسان , إلى أن تصبح الشقة بعيدة بين المدلول الشرعي الأصلي للفظ , والمدلول العرفي أو الاصطلاحي الحادث المتأخر , وهنا ينشأ الغلط وسوء الفهم غير المقصود , كما ينشأ الانحراف والتحريف المتعمد .

 -  وهو ما حذر منه الجهابذة والمحققون من علماء الأمة: أن تنزل الألفاظ الشرعية على المصطلحات المستحدثة على مر العصور .

*    كَلِمَتَا (التَّصْوِيرُ) وَ (النَّحْتُ):
ومن لم يراع هذا الضابط يقع في أخطاء كثيرة، كما نرى في عصرنا.
خذ مثلا كلمة (تصوير) التي جاءت في صحاح الأحاديث المتفق عليها , ما المراد بها في الأحاديث التي توعدت المصورين بأشد العذاب؟
فهل هذه التسمية , تسمية صاحب الكاميرا (مُصَوِّرًا) , وتسمية عمله (تَصْوِيرًا) تسمية لغوية؟

لا يزعم أحد أن العرب حين وضعوا الكلمة خطر ببالهم هذا الأمر , فهي إذن ليست تسمية لغوية.

ولا يزعم أحد أن التسمية تسمية شرعية , لأن هذا اللون من الفن لم يعرف في عصر التشريع , فلا يتصور أن يطلق عليه لفظ مصور وهو غير موجود.
-       فمن سماه مصورًا , وسمى عمله تصويرًا إذن؟
إنه العرف الحادث , إنه نحن , أو أجدادنا الذين ظهر هذا الفن في زمانهم , وأطلقوا عليه اسم التصوير (الفوتوغرافي).
وكان يمكن أن يسموه شيئًا آخر يصطلحون عليه , كان يمكن أن يسموه (العكس) ويسموا من يقوم به (العكاس) كما يقول ذلك أهل قطر والخليج , فإن أحدهم يذهب إلى (العكاس) ويقول له: أريد أن (تعكسني) ويقول له: متى آخذ منك (العكوس)؟ وقولهم أقرب إلى حقيقة هذا العمل , فليس هو أكثر من عكس الصورة بوسائل معينة , كما تنعكس الصورة في المرآة , وهو ما ذكره العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في زمنه , وذلك في رسالته " الجواب الكافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي ".

·        فهل تسمية هذا التصوير نحتًا يخرجه من دائرة ما جاءت النصوص من الوعيد في شأن التصوير والمصورين؟
الجواب بالنفي جَزْمًا , فإن هذا التصوير هو أولى ما ينطبق عليه لفظ التصوير لغة وشرعًا؛ لأنه هو الذي يضاهي (خَلْقَ اللهِ)، لأن خلق الله وتصويره خلق مجسد، كما في الحديث القدسي الصحيح: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي






[1]- ألف العلماء قديما وحديثا كتبا كثيرة في الدفاع عن السنة النبوية ورد هذه التهم ، فمن القدامى ابن قتيبة في كتابه (مشكل الحديث) والطحاوي في كتابه (مشكل الآثار).. ومن المحدثين الدكتور مصطفى السباعي في كتابه (السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي) والشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه (حجية السنة)، والشيخ المعلمي اليمني في كتابه ( الأنوار الكاشفة)..وغيرهم.
[2]- السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص 24-25.
[3]- أعاد إصداره بنفس المضمون تقريبا تحت عنوان (مدخل إلى دراسة السنة النبوية).
[4]- تدريب الراوي 2/196.
[5]- تدريب الراوي 2/190.
[6]- من نماذج التفسير التي سلكت هذا المسلك (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير وكتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) لمحمد الأمين الشنقيطي.
[7]- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/212.
[8]- كما نبه على ذلك أستاذنا الدكتور فاروق حمادة في إحدى جلسات هذه الدائرة العلمية المباركة.
[9]- مسلم بشر ح النووي 2/114 كتاب الإيمان باب تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف.
[10]- البخاري رقم 5787 في اللباس باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار ،و النسائي في الزينة باب ما تحت الكعبين من الإزار 8/207.
[11]- النسائي في الزينة باب ما تحت الكعبين من الإزار 8/207.
[12]- البخاري في اللباس باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار رقم 5784.
[13]- البخاري في اللباس باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار رقم 5788.
[14]- مسلم بشرح النووي 14/62 كتاب اللباس والزينة ، باب تحريم جر الثوب خيلاء.وانظر هناك أحاديث أخر في معناه.
[15]- يقصد حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله   قال : ( لا ينظر الله عز وجل يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء)، أخرجه مالك في الموطأ 2/914.
[16]- التمهيد 3/ 244.
[17]- صحيح ابن حبان 2/282.
[18]- إكمال المعلم 1/381. ونحو هذا الكلام قاله النووي في شرحه على مسلم 2/116.
[19]- فتح الباري 10/275.
[20]- انظر (كيف نتعامل مع السنة النبوية) ص 106-107.
[21]- البخاري 2321 في الحرث و المزارعة  باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به.
[22]- ذكر ذلك الشيخ الألباني فيما نقله عنه عبد اللطيف بن أبي ربيع في (نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد) 2/70.
[23]- صحيح ،أخرجه أبو داود 3/274، والبيهقي 5/316. (انظر صحيح الجامع الصغير رقم 423).
[24]- عون المعبود 9/242.
[25]- فتح الباري 5/7.
[26]- انظر في هذا  المعنى كتاب القرضاوي ( كيف نتعامل مع السنة النبوية) ص: 108-112.
[27]- البخاري  2320 في الحرث و المزارعة   باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه ،وقول الله تعالى : (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما)،ومسلم بشرح النووي 10/215.    
[28]- البخاري رقم 7068 كتاب الفتن باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه.
 [29]- صحيح ابن حبان 13/ 282-284.
 [30]- سنن الترمذي 2/296 كتاب الجنائز باب ما جاء في كراهية النعي ،ورواه موقوفا على ابن مسعود ، وقال إنه أصح من المرفوع.ثم قال: (حديث عبد الله حديث حسن غريب .وقد كره بعض أهل العلم النعي .والنعي عندهم أن ينادى في الناس بأن فلانا مات ليشهدوا جنازته. وقال بعض أهل العلم :لا بأس أن يعلم أهل قرابته وإخوانه ،وروي  عن إبراهيم انه قال لا بأس بأن يعلم الرجل قرابته). سنن الترمذي 2/297.
 [31]- سنن الترمذي 2/297 كتاب الجنائز باب ما جاء في كراهية النعي ،وقال : هذا حديث  حسن صحيح .وحسن الحافظ إسناده في الفتح 3/117.
 [32]- كتاب الجنائز باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه رقم 1245 و1246.
 [33]- فتح الباري 3/140.
 [34]- فتح الباري 3/140.
 [35] الترمذي في الجنائز: (1056) وابن ماجه: (1576) وأحمد: (2/ 337) وأشار إليه في " موارد الظمآن ": (789) ورواه أيضًا البيهقي في " السنن ": (4/ 78).

[36]- صحيح مسلم رقم 82 كتاب الإيمان باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.
[37]- صحيح ابن حبان رقم 1453 و1454 (4/304-305).
[38]- إكمال المعلم 1/343.
[39]- صحيح ،أخرجه مالك 1/123،ومن طريقه أبو داود 2/62 في الصلاة باب فيمن لم يوتر والنسائي 1/230 في الصلاة باب المحافظة على الصلوات الخمس. (انظر صحيح الجامع رقم3243).
[40]- انظر صحيح مسلم بشرح النووي 2/57 كتاب الإيمان باب النياحة والإباق نوع من الكفر.
[41]- إكمال المعلم 1/324.
[42]- رقم 29.
[43]- انظر شرح النووي على مسلم 2/55.
[44]- الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي ص ؟
[45]- مسلم بشرح النووي 4/226-227.
[46]- انظر هذه الأحاديث في مسلم بشرح النووي 4/228-229.
[47]- البخاري 76 في العلم باب متى يصح سماع الصغير ؟ ومسلم بشرح النووي 4/222.واللفظ للبخاري.
[48]- شرح النووي على مسلم 4/227.
[49]- شرح النووي على مسلم 4/ 227.ومثل هذا المعنى نقله الزيلعي عن النووي في الخلاصة( نصب الراية 2/78).
[50] (4) " أبو داود " برقم (4717) عن ابن مسعود - وابن حبان والطبراني عن الهيثم بن كليب. وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (" الفيض ": ج 6/ 371).
[51] اه أحمد والنسائي عن سلمة بن يزيد الجعفي - كما في " صحيح الجامع الصغير ".

[52] واه مسلم في كتاب المناقب من " صحيحه " برقم (2363) من حديث عائشة وأنس.

[53] رواه أبو داود في الجهاد، حديث (1645)، ورواه الترمذي في السير (1604).
[54] متفق عليه، انظر " اللؤلؤ والمرجان "، حديث (850). والأحاديث الثلاثة قبله.
[55] انظر " فتح الباري ": جـ 4 ص 446. وما بعدها، ط. الحلبي.
[56] نظر: موقف عمر من قضية قسمة الأرض بين الفاتحين في كتابنا " السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها ": ص 188 - 201، نشر مكتبة وهبة.
[57] القرضاوي
 [58] ولا معنى لإحالة المسلم على نصابين متفاوتين غاية التفاوت، وهو ما رجحناه في مناقشتنا للموضوع في (فقه الزكاة) ورأينا ضرورة توحيد النصاب في النقود. القرضاوي.
 [59] انظر " فقه الزكاة ": جزء 1 ص 261 - 265.
[60] رواه أحمد والطبراني والحاكم وصححه عَنْ سَمُرَةَ وذكره في " صحيح الجامع الصغير ".
[61]  رواه البخاري عن أم قيس كما في " صحيح الجامع الصغير ".
[62] رواه ابن ماجه عن ابن عمر , والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة وأحمد عن عائشة , كما في " صحيح الجامع الصغير ".
[63] متفق عليه كما في " اللؤلؤ والمرجان " (1430).
[64] رواه الترمذي عن ابن عباس , وقال: «حَسَنٌ غَرِيبٌ» (1757).
[65]  رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن عروة البارقي، وأحمد ومسلم والنسائي عن جرير. " صحيح الجامع الصغير ": (3353).
[66] رواه أحمد عن أبي بكر والشافعي وأحمد والنسائي والدارمي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عائشة، وابن ماجه عن أبي أمامة، والبخاري في " التاريخ 
[67] انظر " نيل المآرب " للشيخ عبد الله البسام: ج 1 ص 40.
[68] رواه مسلم برقم (2034).
[69] حديث رواه مسلم في فضائل الصحابة،
[70] متفق عليه، انظر " اللؤلؤ والمرجان "، حديث (1721، 1746).
[71] انظر " اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان " لمحمد فؤاد عبد الباقي: حديث (359).
[72] رواه البخاري في كتاب الأدب وكتاب التفسير من " صحيحه "، ومسلم في البر والصلة، انظر " اللؤلؤ والمرجان ": حديث 1655.
[73]  اللؤلؤ والمرجان " حديث (1811).
[74] انظر في هذه الأقوال: " فتح الباري ": ج 11/ 421، طبعة دار الفكر.
[75]  " المسند "، طبعة دار المعارف، بتحقيق الشيخ شاكر: ج 8/ 240، 241، تخريج حديث (5993).
[76] متفق عليه من حديث ابن عمر وعائشة
[77] نظر في ذلك كتاب " التصريح بما تواتر في نزول المسيح " للعلامة أنور الكشميري، تحقيق عبد الفتاح أبي غدة، وقد جمع فيه أربعين حديثًا من الصحاح والحسان، فضلاً عما دون ذلك.
[78] إحياء علوم الدين ": ج 1/ 31، 32، ط. دار المعرفة، بيروت.

0 comentarios:

Publicar un comentario